الدفاع المشروع كحق أساسي

الدفاع المشروع: حق شعب في الدفاع عن ذاته تجاه ثقافة الإبادة والإنكار...

عبد الله أوجلان

لقد تطرقت الاشتراكية المشيدة والكثير من حركات التحرر الوطني التي سارت على نهجها في ممارسة العنف بشكل واسع ولم تستطع التخلص من أن تكون محكومة بنظام حماية يعتمد على العنف فقط، إن هذا الموقف يعكس قطعاً طابع الفئات المهيمنة المستغلة، ولأن استخدام العنف كان باسم الاشتراكية والتقدمية فقد جلب معه انحلالاً جاداً، ولقد تأكد مرة أخرى من خلال النماذج التي قدمتها الاشتراكية المشيدة أنه لا يمكن أن يكون العنف أسلوباً للطبقة العاملة وللشعوب المسحوقة، أما الدفاع المشروع فهو عمل مقدس وحق يجب ممارسته لتحقيق الحرية وحماية الكيان ضد كافة الاعتداءات الظالمة التي تستهدف القيم الحياتية مهما كانت الظروف التي يجري فيها ودون النظر إلى زمانها ومكانها.

ان استخدام العنف في الدفاع المشروع يتم فقط عند مواجهة هجمات تهدف النيل من المبادئ المادية والإيديولوجية للكيان الاجتماعي وفي مراحل تطور الحرية وخاصة في لحظات التحول النوعي، أي أن هذا النوع من العنف يظهر في مواجهة العنف الذي تمارسه القوى التي تعمل على إعاقة التطورات أثناء الولادة الثورية، فاستخدام العنف ضمن هذا الإطار يكون مشروعا بل وضرورياً، وكل شكل من أشكال العنف يتجاوز هذا التعريف سيؤدي إلى وضع غير عادل وخسائر غير ضرورية وإلى تحريفات جادة، وهناك الكثير من الأمثلة التي تشير إلى أنه لم يتم تقديم الدعم اللازم للقوى التي تخوض حرباً لحماية نفسها وتطوير حريتها بالقدر الذي حدث في الممارسات التي بولغ فيها باستخدام العنف بهذا المعنى في العديد من التطورات المرتبطة بالاشتراكية العلمية، فنظرية العنف تأتي في مقدمة المواضيع التي أخطأت فيها الاشتراكية المشيدة، وكان لهذا الخطأ تأثير حاسم في انهيار الاشتراكية المشيدة.

الدفاع المشروع: حق شعب في الدفاع عن ذاته تجاه ثقافة الإبادة والإنكار.

يدخل الكرد مرحلة الفوضى على الدوام وهم مثقلين بوطأة تقاليد ثقافة المجازر السلبية الساحقة، يحسونها تطأ رقابهم في الأزمات المتفاقمة. وإذا لم يوجَّهوا بسلوك بَنَّاء ونبيهٍ للغاية ومفعم بالمعاني السامية، فقد يتحولون – وبكل سهولة – إلى عنصرِ صراعٍ واشتباك يفوق في حدته ما هي عليه مأساة الصراع العربي – الإسرائيلي. فخصائصهم الاجتماعية المشوهة والمشلولة والمتمزقة إرباً إرباً تحت وطأة الدول السلطوية الاستبدادية، تجعلهم قابلين للتأثر بأي عامل خارجي. وقد باتوا يفهمون توجيههم على هذا المنوال بأنه قدَر تقليدي محتوم، أو براديغما ثابتة لا تتغير. إلا أن المرحلة تزداد حساسية وحرجاً مع بدء إدراج الولايات المتحدة الأمريكية – كقوة حاكمة تترأس وترود حملة العولمة الجديدة – الكردَ في جدول أعمالها كعنصر أساسي في مشروعها الجديد المتعلق بالشرق الأوسط. وكأن الولايات المتحدة الأمريكية بسياساتها الانعطافية والملتوية الفظة تلك، تفرض حدثاً مجهول النهاية – سواء بوعي أو بدونه – مثلما فتحت الطريق لمآسي متعاقبة في كل خطوة خطتها في المجتمع الشرق أوسطي. ولا يتبقى أمام الاتحاد الأوروبي خيار سوى اقتفاء هذه المرحلة ببطء شديد وبعقلانية أكبر، حسب متطلبات الربح والمنفعة. ذلك أن مفهوم الدولة التسلطية الاستبدادية لا يحتوي تقاليد النظر إلى الكرد بعين الصداقة أو كظاهرة منفردة بذاتها. فالسياسة الوحيدة الراسخة في الأذهان هي: "اسحقه إذا رفع رأسه". هذا إلى جانب وجود تقاليد الكرد الغائرين حتى حلوقهم في الخيانة والتواطؤ وتأجيجهم النزعة "العائلية" على الدوام. ومن ضرورات سماتهم تلك أن يؤازروا مفاهيم الدولة السلطوية المحلية، بقدر ما يتواطئون مع الأسياد الإمبرياليين الجدد بشكل غير مبدئي، ودون أي تردد.

لم يتبقَّ في الواقع سوى ظاهرة كردية مشتتة إلى أشلاء ومحدودة إلى أبعد الحدود. ظاهرة ليست سوى عبارة عن عناصر عائلية تعرضت لمجازر في الذهن والبنية، جعلتها تتجاوز حدود الجهالة المألوفة. لم يَعُدْ هذا العنصر الكردي يميز "كيف يصبح ذاته"، بحيث يمكن الاستفادة منه لأجل أي هدف كان، في خضم الفوضى السائدة في الشرق الأوسط. فبقدر ما يمكن استغلاله بأسلوب وحشي، يُعَدُّ في نفس الوقت وسيلة مساعدة ومساندة قصوى في بناء الشرق الأوسط بما يستحق العيش فيه. وإذا ما فلح الكرد في إعطاء الجواب على سؤال "كيف أكون ذاتي؟" بمضمون ديمقراطي، فسيكونون – بلا شك – أحد أهم القوى الريادية في النفاذ من الفوضى العارمة بتفوق ونجاح. وحينها لن يتغلبوا على سوء طالعهم فحسب، بل وعلى كل تهاويات شعوب المنطقة ومساراتها المقلوبة. وسيتمكنون عندئذ من وضع حد للإحصائيات الدموية الناجمة عن تقاليد الحضارة الظالمة القائمة منذ خمس آلاف سنة. وسيجتثون جذور أسياد الحضارة، الذين طالما مهدوا الطريق لظهورهم، وخدموهم بكل عمى سابقاً؛ ليقدموا أهم المساهمات في نمو وازدهار عصر حرية الشعوب.

وفي حال العكس، أي إذا فشلوا في ذلك، وطال عمر حملات الأسياد الإمبرياليين وتجذرت في المنطقة؛ فلن ينجوا حينئذ من لعب دورهم كقوة ملحوظة في سياسة "القتل والاقتتال" في عموم المنطقة، بما يفوق حدة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ولن تعني الأحداث المعاشة حينئذ سوى شرارات تضرم نيران الاشتباكات الأشد والأفتك ذرعاً. وإذا ما ألقينا نظرة على الألاعيب الممارسة في الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، فإن التنبؤ بمستقبل ألاعيب "الدولة الكردية" لن يتطلب من المرء أن يكون كاهناً. من الضروري التمييز جيداً للفرق المبدئي الموجود بين كل من الدفاع المشروع المسلح من جانب، والعنف الهادف إلى الدولة كأداة حل من جانب آخر.

لذا يعد اعتماد طراز الحل الواقعي "بأساليب ديمقراطية وسلمية" أمراً مصيرياً، بحيث لا يتمركز حول الدولة، ولا يقبل إطلاقاً البقاء في الفوضى العمياء كطراز حياة طويلة الأمد. ويبدو أن أسمى المحاولات تتجسد في التفكير العميق والسامي حول بُناه الخلاقة ومعانيه العميقة، والكفاح لأجلها بحماس وشغف. سأجهد في هذه المرافعة للتخفيف من حدة الآلام الكبرى المنبثقة عن مسؤولية PKK من جهة، وللإسهاب قدر المستطاع في شرح خيار الحل المرتقب، بعد استنباطي الدروس اللازمة في موضوع تقديم نقد ذاتي حقيقي من جهة أخرى.

الدفاع المشروع وطريق الخروج من الأزمة في القضايا الاجتماعية.

الحالة النادرة جداً للأخلاق الاجتماعية مؤشر آخر على اللاأخلاقية العامة. فحالة الأخلاق المستهلَكة تكاد تؤدي إلى فردية محرَّرة من قيودها وضوابطها، وإلى فساد ودمار القيم الاجتماعية. توضَع الأخلاقية بالنسبة للرأسمالية في كفة مساوية لـ"الحماقة والسذاجة". إن مجتمعاً مفتقداً لمقوماته الأخلاقية (أي ضميره)، لا يعني سوى حالة من الفوضى. ولا يمكن تعريفه على نحو آخر. إن المشاكل الاجتماعية التي تسعى الدولة لإعاقتها عبر سياساتها الاجتماعية، عاجزة عن العثور على حل لها. بل وتتفاقم أكثر بسبب ندرة الموارد، وبسبب البنية العامة للرأسمالية.  أما "المنفعة العامة", والتي تعتبر النشاط الوحيد المفعم بالمعاني للدولة، فهي تفقد مضمونها كلياً. و"الأمن العام" للمجتمع أيضاً يعاني من مهالك مشابهة. فتقرب الرأسمالية على أساس "جعل كل واحد ذئبَ الآخر" يقود إلى بروز مشكلة أمنية عامة. فالأمن الاجتماعي لا يُفسَد من الخارج فحسب، أي من الأشقياء أو من الجرائم التي تنص عليها القوانين؛ بل إن ما أدى إليه النظام يجلب معه الدوافع الأساسية للأمن، وعلى رأسها المجاعة والبطالة. ميدان التعليم والصحة أيضاً عاجز عن العثور على حلول لذاته، بسبب ارتفاع الأسعار من جانب، والتزايد السكاني من جانب آخر. وتتكاثر أمراض متسمة بالفوضى، وعلى رأسها داء السرطان، الأيدز، والأرق والإجهاد. والمجتمع الذي بات وجهاً لوجه أمام الانقطاع عن كافة أنواع عناصر الحياة التي لا غنى عنها، وفي مقدمتها البيئة، السكن، الصحة، التعليم، العمل، والأمن؛ أصبح – ولأول مرة  في التاريخ – منتبهاً إلى عجزه عن إيجاد الحلول الجذرية لمشاكله، أي إلى ولوجه في مكبس الفوضى. إنها مرحلة تدوخ فيها العقول وتصاب بالدوار بسبب عقم الحل.

إن الآليات الدفاعية، الفن، العلم والتقنية عاجزة عن لعب دورها بسبب الاحتكار المفرط للسلطة الرسمية إياها؛ رغم أنه من الواجب أن تؤدي وظائفها أكثر من غيرها في مثل هذه المراحل داخل أنظمة المجتمع التاريخية. وكلما انهار التعاضد المشاعي، كلما خارت قوة الدفاع التقليدي، لتتخلى عن مكانها للعنف الفردي والعنف العصاباتي. فمقابل إرهاب السلطة، يؤجَّج إرهاب القبيلة والعشيرة. وكلما تَعرَّت قوة السلطة القتالية في بنية الدولة، كلما تولَّدت حالة من الدفاع المشروع للمجتمع. من جانب آخر، كلما غاب تطبيق قواعد المساواة بأعم أشكالها في دولة القانون، وكلما فُرِض الطوق والحصار على حقوق الإنسان وأساليب التعبير الديمقراطي عن الذات؛ فستتشكل بالضرورة قوى الدفاع عن الحقوق. مما ينمّ ذلك عن إقحام الأجواء في قوقعة العنف المتبادل الحلزونية. سيساهم ذلك في زيادة حدة الأزمة، عوضاً عن الخروج منها. ولدى التصعيد المفرط من قوموية الدولة، ستتطور القوموية الإثنية. هذا بالذات ما يشكل قناة أخرى للعنف.

الدفاع المشروع في الديمقراطية التي هي الوسيلة الوحيدة لحل القضايا الاجتماعية.

لا جدال في أن الديمقراطية هي الوسيلة الأكفأ في حل القضايا الاجتماعية، وعلى رأسها مسألة السلام. وتستنهل قدرتها وكفاءتها من قابليتها في الإقناع، لا من الحروب (عدا حالات الدفاع المشروع الاضطرارية). إذ بمقدورها في كل الأوقات صياغة الحلول المناسبة لمصالح الشعوب الذاتية، عبر مقايستها بين القيم الممكن خسارتها مع الحرب، والقيم الممكن اكتسابها على خلفية الإقناع. فالنقاشات الجريئة والواقعية تنوِّر المشاكل. أما المشاكل المنوَّرة، فيمكن ولوجها في درب الحل عبر الوفاقات الجذرية المتمخضة من المشاركات الواسعة للأطراف المعنية. ما من نظام تكثر فيه الجدالات والنقاشات، وينجح في إبراز الحقائق على وجه الماء؛ بقدر ما هي عليه الديمقراطية. الديمقراطية هي الواحة الحقيقية لتطور العلم والفن. شكلت الديمقراطية في أثينا أفضل الأوساط من أجل الفلسفة. لا يمكن التفكير بأرسطو أو أفلاطون أو سقراط دون ديمقراطية أثينا. ولولا وجود ديمقراطيات المدن في النهضة، لما تطورت الثورات العلمية والفنية.

من الصعب سريان مفعول آليات نظام الديمقراطيات، دون استيعاب طرازها العملياتي. فالديمقراطية المفتقرة إلى العملية أشبه بالإنسان الأبكم. العملية لغة الديمقراطية. كل تحرك للشعب، وكل نشاط للتنظيمات هو عملية. لا يمكن تسيير الديمقراطيات دون القيام بالعمليات المتتالية في زمانها ومكانها المناسبين؛ من أبسطها إلى أعقدها: المظاهرات، الاجتماعات، المسيرات، الانتخابات، التظاهرات والاعتصامات، الاحتجاجات، الإضرابات، وحتى المقاومات والانتفاضات القانونية أثناء الظروف الملائمة. نخص بالذكر هنا أن العمليات وسائل ضرورية للحل في حال التغاضي عن المطاليب الأولية للشعب، أو تدمير وإفساد الكثير من مؤسسات وقواعد وأهداف الديمقراطية. لا يمكن لأي شعب (أو تنظيم) عاجز عن القيام بالعمليات، أن يحقق دمقرطته. حينها يكون في الحقيقة قد مات وزال. هذا وجلي جلاء النهار أن العمليات تكون عبر التنظيمات، وأن العمليات المفتقرة إلى التنظيم ستبقى جوفاء وفاشلة. بقدر ما تكون الشعوب منظمة، تكون حينئذ عملياتية. يجب عدم النظر إلى العمليات على أنها مجرد احتجاجات ومقاومات. فأغلب عمليات المجتمع المدني بنّاءة. أي أن مفهوم العملية الإيجابية هو الأساس.

متى يمكن للانتفاضات والحروب الشعبية أن تفرض ذاتها؟ يرتبط إعطاء الرد الصحيح على أساليب وظروف هذه العمليات الأساسية المستثمَرة والمستخدَمة على حساب الشعوب، بعبور أهم المنعطفات في تاريخ الشعوب بإحراز النجاح المظفر. لا يمكن للانتفاضات والحروب أن تجد معناها، إلا في حال عدم إثمار كافة أشكال العمليات الأخرى، ولدى معاناة المشاكل القائمة من العقم الجذري. نخص بالذكر هنا ضرورة إبداء الشعوب قدرتها على القيام بالانتفاضات والحروب في سبيل مصالحها الحيوية والمصيرية؛ عوضاً عن العيش في ظل العبودية المُحِطّة للقدر، عندما لا تترك قوى السلطة القتالية أي خيار للحل سوى اللجوء إلى العنف. إذ لا مناص من التركيز الحقيقي والجدي على انتفاضات الشعوب وحروبها، عندما لا تطبَّق القوانين بالتساوي، ويُهمَل دور الديمقراطية في الحل، وتُفرَغ كافة العمليات السلمية من محتواها. بمقدور الإطارَين التاليَين إعطاء الجواب اللازم: عندما لا تترك الدولة أي مجال للحل الديمقراطي، ولا تهتم به بالحساسية المطلوبة، وعندما لا يبقى بحوزة الشعب أي عامل آخر للتأثير على الدولة؛ حينها تبدأ فعالية الانتفاضات الدموية – بنسبة منخفضة كانت أم مرتفعة – أو الحروب الشعبية الدائمة – عالية النسبة كانت أم منخفضة – مثلما شوهد لدى العديد من الشعوب.

لا تهدف كل انتفاضة أو حرب مندلعة إلى الانفصال. بل خلافاً لذلك، إنها تقود بالأرجح إلى التكامل الديمقراطي. لقد مر الزمن على الانتفاضات والحروب التحررية الوطنية القديمة الهادفة إلى بناء الدولة، وعفا الدهر عليها. فالانتفاضات والحركات التحررية الوطنية الهادفة إلى الدولة، ليس من محصلتها سوى إضافة ملحق صغير آخر إلى الدولة الرأسمالية. وكيفما لا يجلب هذا أي حل لأية مشكلة تعانيها الشعوب، فهو يُزيد من وطأتها أيضاً. فمشاكل الشعب العربي، صاحب الاثنين وعشرين دولة، لم تقلّ – حسب الظن – بل تكاثرت. من هنا، بالإمكان تعريف الانتفاضات والحروب الشعبية للمرحلة الجديدة، بأنها لا تكون هادفة إلى الدولة، بل إلى التفعيل التام للديمقراطية، شكلاً ومضموناً. هكذا يمكن رسم أدوارها الرئيسية. فالانفصال لن يجد معناه، إلا إن كان لا مناص منه. يستدعي خيار الشعوب على الدوام الانحياز للتكامل الديمقراطي. مهما فرض أصحابُ النعرات القوموية المفرطة الانفصالَ والعنف لدى كلا الطرفين، إلا إنه من الضروري أن يكون التكامل الديمقراطي وأقلُّ درجة من العنف هو خيار الشعوب في هذه الظروف. فبقدر ما يكون اللجوء إلى الانتفاضات والحروب قبل نضوج ظروفها وزمانها المناسبين أمراً خطيراً؛ فعدم اللجوء إليها مُحِطّ من القدر ومميت بنفس النسبة من الخطورة، لدى انعدام كافة الخيارات الأخرى.