الحركات الكردية المعاصرة - ٢-

سياسةَ "فَرِّقْ – تَسُدْ" طُبِّقَت بعنايةٍ فائقةٍ بغيةَ خُسرانِ الكرد ومستبديه. وتحتلُّ إنكلترا دورَ الصدارةِ في هذه السياسةِ...

عبد الله أوجلان

شهدَ النصفُ الثاني من القرنِ التاسع عشر انكسارَ شوكةِ مبادراتِ تأسيسِ إمارةٍ طويلةِ الأمدِ بنسبةٍ لا يُستَهانُ بها. وقد قَيَّمَت مؤسسةُ المَشيخةِ هذا الوضع. أما السلطان محمود الثاني، الذي طالَت ضرباتُه القاضيةُ مؤسسةَ الإمارةِ في واقعِ الأمر؛ فأثناء قضائِه على بُؤرةِ الانكشاريين، ألحقَ ضرباتِه بالبكداشيةِ أيضاً بعدَما كانت طريقةً رسمية. كان هذا السلطانُ قد سعى إلى ملءِ فراغِ الشرعيةِ عن طريقِ طريقةٍ دينيةٍ جديدة، أي النقشبندية. فبرزَ إلى المقدمة الشيوخُ الكردُ النقشبنديون المتمتعون بنفوذٍ ملحوظٍ ضمن الطريقةِ النقشبنديةِ حينذاك. وأحدُ هؤلاء هو مولانا خالد المنحدرُ من مدينةِ السليمانية، والذي أضحى أحدَ أقوى الشيوخِ اللامعين الذين دفعوا بمدارسِ النظامِ إلى الأمامِ بعدَ تصفيةِ الانكشاريين والبكداشيةِ في 1826. وهكذا، حلَّ الشيوخُ محلَّ الأمراءِ باعتبارِهم المتواطئين الجددَ مع السلطنة. وازدادَ نفوذُهم في القصورِ مع مرورِ الأيام. هذا ولَمَعَ نجمُ الطريقةِ القادريةِ أيضاً بدورٍ مماثل. وهنا أيضاً كان الشيوخُ الكردُ في الصفوفِ الأمامية. نادراً ما بُحِثَ في دورِ الشيوخِ ضمن الحركاتِ الكرديةِ المعاصرة، مع أنّ مؤسسةَ المشيخةِ هي المؤسسةُ التي تعززَت وامتلكَت زمامَ المبادرةِ سريعاً، بسببِ تحالُفِها مع القصورِ على خلفيةِ إضعافِ مؤسسةِ الإمارةِ والقبيلة. وقد تحركُ مُدراءُ القصورِ بوعيٍ تامٍّ في ذلك. وعليه، أدت المؤسساتُ الطرائقيةُ دوراً مُحَدِّداً خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين، لتطويرِ المجتمعِ المعتمدِ على مفهومِ الجماعةِ الدينيةِ داخل كردستان. إلا إنّ تواطؤَها مع القصور، والذي هو ضربٌ من ضروبِ العمالة، قد لعبَ دوراً هاماً في تسارُعِ وتيرةِ تصاعدِها بهذه الدرجة. إذ يستخدمُها النظامُ القائمُ كقوةِ شرعنةٍ جديدة. لذا، فهي لا تندرجُ في فئةِ المجتمعِ المدنيِّ المتكونِ تلقائياً. أو بالأحرى، بقيَ هذا الجانبُ ضعيفاً فيها على الدوام. الشعبُ غيرُ مُطَّلِعٍ على جانبِ العمالةِ والتواطؤِ لمؤسسةِ المشيخة، حيث أُبقيَ على هذا الجانبِ مستوراً ومحجوباً باستمرار. فالدورُ الأساسيُّ للشيوخِ خلالَ كِلا القرنَين يتمثلُ في إحلالِ الإخلاصِ والوفاءِ الجديدِ والأمتنِ بزعامتِهم محلَّ وفاءِ وإخلاصِ الإمارات. بناءً عليه، يتحلى البحثُ وكشفُ النقابِ عن دورِ شيوخِ الطرائقِ الدينيةِ في شرعنةِ النظامِ وتأمينِ سيرورتِه بأهميةٍ عاليةٍ ويُعتَبَرُ ضرورةً ماسة، تماماً مثلما كان دورُ أرستقراطيةِ الإمارةِ في ذلك قبلَهم.

بإمكانِنا الإيضاحُ أكثر بالتطرقِ إلى حدثٍ يُعَدُّ مثالاً في هذا السياق. حقَّقَت حركةُ الشيخ عُبيد الله تقدُّمَها ارتباطاً بالحربِ العثمانيةِ – الروسية (1877 – 1878). حيث استفادَت من الوضعِ الصعبِ الذي سقطَ فيه العثمانيون تجاه الروس، وحاولت الاستفادةَ أيضاً من تناقضاتِهم مع القوى الخارجية. فضلاً عن تأثُّرِها بالحركاتِ القوميةِ داخلَ الإمبراطورية. لقد أخذَت في الحسبانِ الآمالَ المنتعشةَ حديثاً ضمن المجتمعِ الكرديّ. وتعاظمَت الحركةُ في غضونِ فترةٍ وجيزة، ليس بدعمٍ من رجالاتِ الدينِ وحسب، بل وبمؤازرةِ الأوساطِ الأخرى ذاتِ النفوذِ الملحوظ. هذا وتطرقَت اجتماعاتُها المعقودةُ إلى الشكاوي الموجودةِ من البيروقراطيةِ المركزية، وإلى المطالبِ القوميةِ القائمةِ التي أدرجَتها في لائحةِ أهدافِها. امتدَّ تأثيرُ الحركةِ ضمن مساحاتٍ شاسعةٍ من كردستان المنضويةِ تحت سقفِ الدولتَين العثمانيةِ والإيرانية، واكتسبَت شكلاً عسكرياً. وكانت مساندةُ قوةٍ واحدةٍ أو بضعةِ قوى مهيمنةٍ آنذاك ستكفي لتحوُّلِها إلى دولةٍ رسمية. لكنّ هذه المساندةَ لَم تحصل. فقبولُ الدولتَين الإيرانيةِ والعثمانيةِ بكافةِ طلباتِ القوى الغربيةِ المهيمنة، أصبحَ عاملاً مؤثراً في أنْ تَبخلَ تلك القوى عليهم بالدعمِ والمؤازرة. ولدى إبداءِ المساندةِ لصالحِ الدولتَين العثمانيةِ والإيرانية، بات يسيراً تصفيةُ حركةِ التمردِ الكبرى هذه. وقد استنبَطَت السلطنةُ دروساً هامةً من هذه الحركةِ الظاهرةِ إلى الوسطِ في عهدِ السلطان عبد الحميد الثاني. فالأسلوبُ المُطَبَّقُ على عائلةِ بدرخان بيك، قد جُرِّبَ كما هو مع أُسرةِ عبيد الله النهري أيضاً. حيث نُقِلَت إلى إستنبول في محاولةٍ للتحكمِ بقِسمٍ من الكردِ هناك بواسطتِها.

  1. c) تستحقُّ السياسةُ الكرديةُ المطبَّقةُ في عهدِ عبد الحميد (1876 – 1909) البحثَ والتدقيقَ في بندٍ مستقلّ. حيث أُسِّسَت الألويةُ الحميديةُ استلهاماً من نموذجِ "الألويةِ الروسيةِ الكازاخية". فالمستجداتُ التي أسفرَت عنها الحركاتُ الأرمنيةُ والكردية، دفعَت بيروقراطيةَ الإمبراطوريةِ إلى اتخاذِ تدابيرٍ جذريةٍ كان أولُها اختلاقُ تناقضٍ أرمنيٍّ – كرديّ، ثم استغلالُه. وقد جُرِّبَ الأسلوبُ عينُه في العلاقاتِ الكرديةِ – السُّريانيةِ أيضاً. بالتالي، فهذه الشعوبُ التي عاشَت متداخلة، ليس على مدى مئاتِ بل آلافِ السنين؛ قد أُقحِمَت في حالةٍ متنافرةٍ ومتنازعةٍ مع بعضِها بعضاً، بدافعٍ من طمعِ الربحِ – الكسبِ الذي أدت إليه الحداثةُ الرأسمالية. أو بالأصح، استفادَت القوى المهيمنةُ من التناقضاتِ القائمةِ بين الشرائحِ الفوقية، وسخَّرَت الشعوبَ أيضاً كآلةٍ في مآربِها تلك. وقد أكدَ التاريخُ على صحةِ الافتراضِ القائل: لو أنّ بدرخان بيك ذهبَ لعقدِ التحالفِ مع السُّريان، لَتَمَكَّنَ الشعبان من نيلِ مزيدٍ من المكاسبِ على صعيدِ الحقوقِ والحريات. لكنّ سياسةَ "فَرِّقْ – تَسُدْ" طُبِّقَت بعنايةٍ فائقةٍ بغيةَ خُسرانِ كِلا الطرفَين. وتحتلُّ إنكلترا دورَ الصدارةِ في هذه السياسةِ أيضاً. والحملةُ على العراقِ حينذاك قد سُيِّرَت بهذه الأساليب.

تاريخُ العلاقاتِ الأرمنيةِ – الكرديةِ أقدمُ زمناً، بحيث شَهِدَت تقسيماً طبيعياً للعمل. فالحِرَفُ الحرةُ لدى الأرمن، والزراعةُ لدى الكردِ تُغَذّيان بعضَهما بعضاً. والدينُ ليس عاملَ تنافُرٍ أو تنازُع. لكنّ حِراكَ القومويةِ الأرمنيةِ بنحوٍ منقطعٍ عن تاريخِها وعن واقعِ المجتمعِ الشرقيّ، قد قدَّمَ للسلطانِ الأرضيةَ التي يحتاجُها لاستخدامِهم كما يشاء. فمقابلَ كردستان التي يتعينُ اعتبارُها وطناً مشتركاً، جرى التفكيرُ بأرمينيا من عِرقٍ خالص، كضرورةٍ من ضروراتِ مشروعِ وطنٍ ذي أمةٍ واحدةٍ على غِرارِ الحركةِ السُّريانية. وأفظعُ تخريبٍ تتسببُ به أيديولوجيا الدولةِ القومية، هو اتخاذُها أثنيةً أو أمةً واحدةً حاكمةً أساساً لها على الدوام. بينما سيُعَدُّ الآخرون غرباء يمثلون أقليةً أو أمةً "أخرى". مَنطِقُها يقتضي ذلك. والمحصلةُ هي دخولُ الشعوبِ والثقافاتِ المتجاورةِ العريقةِ المتعايشةِ بالتداخلِ منذ القِدَمِ حرباً تنافسيةً تجاه بعضِها بعضاً. وعندما حَمَلَ كلُّ طرفٍ أهدافاً قومويةً مُشابهةً على رقعةِ الأرضِ نفسِها، تغدو الاشتباكاتُ والمُقارعاتُ أمراً لا مفرّ منه. من هنا، فالمنطقُ القومويُّ للدولتيّةِ القوميةِ هو الذي يكمنُ وراء الاشتباكاتِ والصراعاتِ الدائرةِ في العلاقاتِ الكرديةِ – التركيةِ – الأرمنيةِ – السُّريانية.

والسلطانُ عبد الحميد الذي انطلقَ في مسيرتِه من هكذا تناقض، باشرَ اعتباراً من عامِ 1892 بتحريكِ "الألويةِ الحميديةِ الخَيّالة"، التي تمَّ تجميعُها من العشائرِ الكردية. أما استراتيجيةُ وتكتيكاتُ القومويةِ الأرمنيةِ التي أَسنَدَت ثقتَها إلى دعمِ ومؤازرةِ القياصرةِ الروس، فأصيبَت بالفشلِ في وجهِ وحداتِ السلطانِ المُجَمَّعةِ من العشائرِ الكردية. علماً أنه لو أَسنَدَ الأرمنُ استراتيجياتِهم وتكتيكاتِهم  إلى سياسةِ الصداقةِ مع الشعوبِ المجاورة، لَربما كانوا مهّدوا السبيلَ بذلك أمام تطوراتٍ ثوريةٍ تُحَوِّلُ مصيرَ الشرقِ بمنوالٍ راديكاليّ. أي، كان بوِسعِ الأرمنِ العثمانيين أنْ يلعبوا دوراً شبيهاً بما أداه اليهودُ الروسُ في الثورةِ الروسية. إلا إنّ منطقَ القومويةِ البورجوازيةِ المتسببَ في الضمورِ والتقزم، لَم يُتِحْ المجالَ لهكذا تطورات.

لكنّ التخريباتِ الأصلَ التي تَسَبَّبَت بها الألويةُ الحميدية (هذا ويجب إضافةُ "المدارس القَبَلِيّة"  أيضاً)، قد طالَت الكرد. أي إنّ الألويةَ الحميديةَ تَبدو وكأنها أُسِّسَت تجاه تهديداتِ القومويةِ الأرمنية. لكنها من حيث المضمونِ شُيِّدَت ضد الحراكِ القوميِّ الكرديِّ الذي بات على مشارفِ الوصولِ إلى أشكالٍ عصرية. وبمعنى آخر، فقد عُمِلَ على اصطيادِ عدةِ عصافير بحجرٍ واحد. هذه الحركةُ التي يتعينُ النظر إليها على أنها تطبيقٌ باكرٌ لـ"حُماة القرى"، لا تنحصرُ فقط في القضاءِ على الخطرِ الأرمنيّ (هكذا يَنعكسُ التاريخُ الرسميّ. ولكن، يتعينُ الإدراكُ جيداً أنه للشعبِ الأرمنيِّ أيضاً مطالبُه القوميةُ الديمقراطيةُ المُحِقّة. لكنّ تلك المطالبَ هي التي تُقمَعُ أساساً)؛ بل وتَنسفُ أيَّ احتمالٍ لولادةِ أيةِ حركةٍ قوميةٍ كردية. وهذا هو الجانبُ الأنكى في الأمر. حيث تُسَلَّحُ نخبةٌ ضيقةٌ من القبيلةِ مقابلَ معاشٍ وراتب، ليتمَّ التحكمُ بكافةِ القبائلِ والعشائرِ بجميعِ أعضائِها، فتُستَخدَمُ بالتالي كما يَهوى السلطان. وهكذا، أدت الألويةُ الحميديةُ دوراً مصيرياً في نسفِ ظهورِ أيةِ حركاتٍ رياديّةٍ على مستوى حركتَي بدرخان بيك وعبيد الله النهريّ مرةً ثانية. من هنا، فالضربةُ الحقيقيةُ قد طالَت الحركةَ القوميةَ الديمقراطيةَ الكرديةَ التي يُحتَمَلُ ظهورُها. علاوةً على أنّ القبائلَ أيضاً أُلِّبَت على بعضِها بعضاً عن طريقِ التناقضاتِ والفِتَنِ المُثارةِ بينها. وفي خضمِّ هذه الأجواءِ المشحونةِ بالتناقضاتِ والاشتباكات، لَم يقتصرْ الأمرُ على هدرِ أهمِّ فترةٍ من تاريخِ كردستان تُقاربُ النصفَ قرن، بل وأُقحِمَ المجتمعُ الكرديُّ في سلبياتٍ ومساوئ غائرةٍ باستثمارِ تلك التناقضاتِ والنزاعاتِ ضده؛ فسقطَ في وضعٍ عقيمٍ لا يفلحُ فيه، لغرقِه في التناقضاتِ والصِّداماتِ الداخلية.

هذه السياساتُ المرتكزةُ إلى القوى القَبَلِيّةِ المتواطئةِ المصبوغةِ بالطابعِ المليتاريّ، إلى جانبِ اعتمادِها على مؤسَّسَتَي الإمارةِ والمشيخةِ المتواطئتَين معها؛ توضِّحُ على أكملِ صورةٍ أسبابَ العجزِ عن تطويرِ الحركةِ القوميةِ الكرديةِ على غِرارِ مثيلاتِها. ومن عظيمِ الأهميةِ الإدراكُ والتقييمُ بأفضلِ الأشكالِ هنا أيضاً، أنّ الشريحةَ الفوقيةَ الكرديةَ لعبَت دوراً سلبياً جداً، أو أُنيطَت بدورٍ سلبيٍّ للغاية. موضوعُ الحديثِ هنا هو كيانٌ خاصٌّ وكأنه مدفوعٌ لمحاربةِ وجودِه الاجتماعيِّ وهويتِه الاجتماعية. لا، ليس وكأنه، بل نحن وجهاً لوجهٍ أمام كياناتٍ زائفةٍ من إنتاجِ هندسةِ الحداثة، تُسَلَّطُ لمحاربةِ هويتِها الذاتيةِ على أرضِ الواقعِ فعلاً. يجبُ فهمُ المَنطقِ المعمولِ به هنا على أحسنِ وجه. فالمتاجرةُ بالحركاتِ الكرديةِ المُحتمَلةِ تبقى الوسيلةَ الوحيدةَ بأيديِها لإطالةِ عُمرِها أشخاصاً وعائلات، عندما تَخسرُ قواها، وبالتالي منافعَها التقليدية (عدة عوامل تلعب دورَها في ذلك، وعلى رأسِها انتهاءُ التمرداتِ بالهزيمةِ الشنعاء). هذا وتستَخدَمُ كلَّ أسلوبٍ في حساباتِ صفقاتِها، بدءاً من التخلي عن زعامةِ أيةِ حركةٍ محتَمَلة، وصولاً إلى نسجِ خيوطِ الحركاتِ التآمريةِ المضادة (كونتر كريلا مبكرة). وأكثرُ الأساليبِ تأثيراً، كان الحظيَ ببعضِ المصالحِ الماديةِ والمعنوية، مقابل التخلي عن الكردايتيةِ كظاهرة، واعتبارَ نفسِها جزءاً نفيساً من ظاهرةِ الأمةِ الحاكمة. وهذا هو الأسلوبُ المفروضُ بكثافة، والمُتَّبَعُ بنجاحٍ موفَّقٍ حتى يومِنا الراهن، إزاء كافةِ الطبقاتِ والشرائح، وإزاء كلِّ الأُسَرِ والشخصياتِ التي تحتويها بين ثناياها. الأمرُ الذي بات شعاراً واضحٌ جلياً: تراجَعْ عن الكردايتية، كي تصبحَ كلَّ شيء، وتحظى بكلِّ شيء!

النتيجةُ الأخرى لهذا الأسلوب، هو إفساحُه السبيلَ أمام مفهومٍ مفتوحٍ على مِصراعَيه أمام كردايتيةٍ زائفةٍ تُبتَكَرُ كي تُستَخدَمَ وسيلةً للاستحواذِ بمصالح ونفوذٍ شخصيٍّ وعائليّ. ما من ريبٍ في وجودِ شخصياتٍ وعوائل ذاتِ نفوذٍ في كلِّ مجتمع. وهي مَدينةٌ في نفوذِها ذاك إلى القِيَمِ التي أضافَتها إلى مجتمعِها. لكنّ ثمنَ التحولِ إلى شخصيةٍ وعائلةٍ ذاتِ نفوذٍ لدى الكرد، هو المتاجَرةُ بقِيَمِها الاجتماعيةِ في أكثرِ المجالاتِ حياتيةً وأهمية، وخيانتُها، بل وحتى محاربتُها. إنّ الجانبَ الفجيعَ والخاصَّ بالكرد، هو المواقف والحساباتُ والممارساتُ الميدانيةُ المَسلوكةُ في هذا المنحى بحقِّ الواقعِ الاجتماعيّ. هذا ولا شكَّ في وجودِ شخصياتٍ وعوائل مُستَثناةٍ في كلِّ طبقةٍ وشريحة، بحيث تَكُونُ مُوَقَّرةً ووَقورة، وتؤدي دوراً مُشَرِّفاً. لكنّ الساريَ هو تلك الأساليبُ الملعونةُ الضاربةُ في جذورِها عميقاً، لا الحالات الاستثنائية.

  1. d) سياساتُ الدولةِ بصددِ الحركةِ الكرديةِ في فترةِ ظهورِ "جمعية الاتحاد والترقي"، أي في مرحلةِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء، ما هي سوى تجذيرٌ للسياسةِ الكرديةِ المتجسدةِ في "الألويةِ الحميدية"، وإنضاجُها وتوطيدُها عبر تمأسُساتٍ متعددةِ المناحي. أي أنّ الألويةَ الحميديةَ حافظَت على وجودِها. وأطفالُ وشُبّانُ النخبةِ الكرديةِ المتواطئةِ أُلحِقوا بأعدادٍ أكبر بالمدارسِ الرسميةِ بدلاً من "المدارس القَبَلِيّة". وهكذا تشكلَت أولُ مجموعةٍ كرديةٍ متنورةٍ تَعَرَّفَت على الحداثوية، وتنحدرُ في أصولِها من النخبةِ الأرستقراطيةِ والدينيةِ والقَبَلِيّةِ التقليدية. كان هذا الفريقُ تكويناً جديداً أبرزَ حضورَه بتأسيسِ الجمعيات، وبإصدارِ المجلاتِ والصُّحُف. وبالإمكانِ تسميتُه أيضاً بأولِ حركةِ تَبَرجُزٍ جماعيّ. هذه الأوساطُ المنتبهةُ إلى استحالةِ أدائِها دورَها بوعيِ الإمارةِ أو المشيخةِ أو القبيلة، كانت تُحَقِّقُ تحوُّلَها الطبقيّ، مثلما تُصادَفُ أمثلةَ ذلك بكثرة. وفي الحين الذي كان الرومُ والأرمنُ والسُّريانُ فيه يَتَبَرجزون باكراً وسريعاً بدافعٍ من تأثيراتِ الرأسماليةِ الأوروبية، وبسببِ اعتناقِهم المسيحية؛ فقد كانت المجتمعاتُ المسلمةُ لا تُواكبُ رَكبَهم في هذا السياق. وهذا التحولُ المتأخرُ هو الذي كان سائداً بين الكردِ أيضاً. لذا، كان من المفهومِ أنْ يُعَبِّروا عن ذاتِهم بالقومويةِ البدائية. لقد كانوا يمثلون "جون كورد" على غِرارِ "جون تورك" (أي تركيا الفتاة). وبالأصل، كانوا يتشكلون بالتداخلِ مع جون تورك، ليُحرزوا التقدمَ في كنفِ الهيمنةِ الأيديولوجيةِ الغربيةِ بكلِّ معنى الكلمة. إذ كانوا غيرَ مؤهَّلين للقيامِ بانطلاقةٍ أصلية. لذا، كانوا يكتَفون بالاقتباساتِ المُجَزَّأةِ والمتناثرة، دون هضمِ وتَبَنّي العِلمَ والفلسفةَ الغربية.

كانت الانطلاقاتُ الفكريةُ للكردِ اليافعين منحرفةً ومفتقرةً لهويتِها الذاتية، بسببِ خنوعِها واستسلامِها لبنيتِها الطبقيةِ التقليدية، وتَبَعِيَّتِها للتواطؤِ الممنهج. كما ولَم تَكُ لها بحوثُها ودراساتُها الجادةُ بشأنِ التاريخِ الكرديِّ وواقعِ المجتمعِ الكرديّ، نظراً لافتقارِها إلى الظروفِ والمهاراتِ التي تخوِّلُها للقيامِ بذلك. أما العناصرُ القومويةُ البدائيةُ التوفيقيةُ والاقتباسيةُ إلى آخرِ درجة، والتي لا تتعدى الشعاراتية؛ فكانت تُشَكِّلُ القُوتَ الأيديولوجيَّ الأساسيَّ لها. لقد كانت تُعَلِّقُ آمالَها على الحُكمِ الدستوريّ، حيث أحرَزَت ميولُ إصدارِ الصُّحفِ والجرائدِ وتشكيلِ الجمعياتِ التقدمَ إلى حدٍّ ما في السنواتِ الأولى منه، وساهمت في التنافسِ القوميّ. كما وتضاعفَ التنافُسُ فيما بينها، بدافعٍ من ازديادِ تاثيرِ القومويةِ التركيةِ وتركِها بصماتِها على أجهزةِ الدولةِ تدريجياً. أما الحِراكُ والبنيةُ الأوطدُ للقومويةِ الأرمنية، فكانت تؤثرُ سلباً على التنافسِ الدائرِ بينها، وتُزيدُ من حِدّةِ تخاصُمِها.

نَمَّ صعودُ القوموياتِ الثلاثِ إلى مرتبةِ الدولةِ القوميةِ عن تحويلِ العلاقاتِ فيما بينها إلى صراعٍ ونزاع. وصارت حروبُ البلقان والحربُ العالميةُ الأولى نقطةَ التحول. فبينما آلَت الحركةُ الأرمنيةُ إلى الإبادة، انقَسمَت الحركةُ الكرديةُ إلى قِسمَين، أحدُهما من المُوالين للتحركِ المشتركِ مع البورجوازيةِ التركيةِ بشرطِ التمتعِ بنفسِ الحقوقِ التي تتمتعُ بها، وثانيهما من المُوالين للانفصال. انتهى هذا الانقسامُ المستمرُّ حتى حربِ التحريرِ الوطنيةِ الناشبةِ فيما بين 1919 – 1922بخسائر استراتيجيةٍ فادحةٍ تَكَبَّدَت بها الحركةُ الكردية. فمشاركتُهم في حربِ التحريرِ الوطنيةِ على مستوى الأشخاصِ وبطرازٍ يفتقرُ إلى الوعيِ والتنظيمِ الذاتيَّين، أسفرَت عن اكتفائِهم بحضورٍ سقيمٍ وضحلٍ إلى حدٍّ بعيد، سواء أثناء الحرب، وبالأخصِّ أثناء اللقاءاتِ الجاريةِ بشأنِ معاهدةِ لوزان اللاحقةِ لها، أو خلال إعلانِ الجمهورية. وعليه، ذهبَت آمالُهم في امتلاكِ الحقوقِ عينِها إلى جانبِ الأتراكِ أدراجَ الرياح. أما عدمُ تطبيقِ "دستورِ تركيا الأساسيِّ" الصادرِ في 1921 و"قانون الحكم الذاتي الكردي" المؤَرَّخ بيوم 10 شباط 1922 على أرضِ الواقع، وبقاؤُهما حبراً على ورق؛ فكان النهايةَ لكلِّ طموحاتِهم وأحلامِهم. بَيْدَ أنهم كانوا في منزلةِ العناصرِ الأصليةِ التي خاضت حربَ التحريرِ الوطنية. تجربةُ القومويةِ الكرديةِ البدائيةِ هذه، تتطلبُ التوقفَ عندها بإمعان، واستخلاصَ الدروسِ والعِبَرِ المفيدةِ منها بعناية.

يتبع...