مقالات وأبحاث

ألوان  شرق الأوسط  

الشرق الأوسط و محاولات البحث عن الهوية...

نور الدين صوفي

تزداد كل يوم النقاشات و الأحداث الذي يمر بها العالم، و توضع التكهنات عن مصير الإنسانية في محاولة لفهم العصر و تثبيت هويته الإيديولوجية، و باختلاف المدارس الفكرية و السياسية تختلف وجهات النظر بين المفكرين في تحديد الهوية وماهيتها. و إذا كان كل مفكرَ خاص في مجتمع أو طبقة اجتماعية فإنه في النتيجة ابن هذا الوسط الاجتماعي شاء أم أبى و هو بذلك ممثل لهذا الوسط و لسان حاله، و لذلك فإن وجهة نظرهٍ تتبلور على ضوء أهداف هذه الطبقة الاجتماعية ومصالحها، وإذا كانت التطورات الاجتماعية و الإيديولوجية كما شهد التاريخ على الدوام وليدة وسط اجتماعي أو طبقة أو إقليم معين دون غيره، فإن المفكرين سوف ينقسمون حتماً بين مروّ ّج  لهذه الإيديولوجيات وبين ناقد لها، و كل طرف سيحاول وضع البراهين القاطعة ليجعل من فكره نتيجة حتمية و واقعية لا مناص منها، و بذلك تظهر على الساحة مقاييس  القبول و الرد، و تشكل لوحة متشابكة و متداخلة كشبكة العنكبوت. في هذا الوسط الضبابي و الدهاليز المتعرجة، يصبح من الصعب بمكان كشف الحقيقة وتبنيها دون أن يصبح المرء وسيلة أو آلة فيسقط في مواقع لا تليق به و غير مشرفة، و دون شك فإن الديالكتيك التاريخي لتطور المجتمع الإنساني كان نتيجة التضاد للأطروحة و الأطروحة المضادة ضمن وحدة  متكاملة وفق قانون وحدة وصراع الأضداد. ووفقاً لصيرورة الحركة واستمراريتها تفيد الأطراف و الإطراف المضادة من حيث الشكل لا المضمون و بذلك فإن حقيقة الصراع تحافظ على نفسها وتبقى وحدها الحقيقة الحتمية و الغير قابلة للتغير، مع العلم أن تبني طرف و تنكر طرف آخر هو من أهم الأخطاء الناتجة عن التقربات الأيديولوجية البحتة فلا التطرف ولا المساومة و الاستسلام. وهذه رؤية أحادية الجانب  لا ترى في اللوحة إلا اللون الأسود والأبيض، مع العلم إن بين هذين اللونين عشرات الألوان التي تبدو أكثر رونقَ وجمالاً، لذلك فَالوصول إلى التركيبة الصحيحة في هذا الصراع و تبني هذه التركيبة هي الاختيار الأفضل من بين كل الأطراف و بذلك فقط يمكن الحصول على ثمرة نتاج التطور الإنساني بمختلف منابعه ومصادره.نتيجة التطور الرأسمالي نحو الاقتصاد الليبرالي ودولة الرفاه الاجتماعي في محاولة كسب أستمراريتها و الحفاظ على نظامها في خضم الصراع مع الاشتراكيةْ،ْ المشيدة المتمثلة بالاتحاد السوفيتي تركت السياسة ثنائية القطب المجال أمام " نظام عالمي جديد"، أخذ يتبلور شيئاً فشيئاً ليأخذ أشكال و أسماء مختلفة جديدة، و إزاء هذا الحدث المتمثل بانهيار الاتحاد السوفيتي انهارت أحلام الكثيرين من الاشتراكيين السطحيين والمرتبطين بحبل السرة بالنظام السوفيتي رغم أخطاءهِ  و ذوي الفهم المحدود للماركسية اللينينية، فكانوا اشتراكيين ليس وفق النظرية العلمية للاشتراكية بل اشتراكية وفق الموديل السوفيتي الذي تحول إلى آلة في خدمة الدولة و بيروقراطيتها وتحت أسم ديكتاتورية البروليتارية.و في الطرف الآخر عاشت الإمبريالية أحلام اليقظة بنصر مزيف وخدعت نفسها و كأن انهيار الاتحاد السوفيتي هو نصر للرأسمالية، و راحت بذلك تروج النظام العالمي الجديد وفق المقاييس الرأسمالية لتثبت بذلك حتمية النظام الرأسمالي و صيرورته ِ، وأطلقوا على النظام العالمي الجديد أسماء مختلفة و قاموا بالدعاية لها، ووصلت هذه الدعاية لدى المفكرين الإدعاء بنهاية التاريخ، و جعلت التطورات التكنولوجية في مجال المعلوماتية بشكل خاص في خدمة الدعاية و الترويج لها، في محاولة لتطبيع الهوية الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية بطابعها، و بدأت الأنظمة السياسية تحت راية الحكومة الأمريكية بتطبيق هذه النظريات على أرضية الواقع. فبدأت الشركات الأمريكية الكبرى التي تحاول تحت أسم الليبرالية الجديدة أن تزيل العقبات و الحدود عن طريقها لتجتاز الحدود الوطنية للدول، و تتحد هذه الشركات مع مثيلاتها في الدول الصناعية في السقف تحت اسم البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي و اللغات  " الدولة الصناعية الكبرى"، هذا الشكل الجديد للاقتصاد و جمع الثروة ليد فئة رأسمالية قليلة لتترك الجانب الآخر في مواجهة البطالة والفقر والجوع و لتنهار حكومات و دول مشيئة هذه الشركات والمؤسسات كما في حدث في الأرجنتين مؤخرا.وإذا كان لكل نظام اقتصادي  انعكاسات تبني الهوية الجديدة للمجتمع، فإن النظام الاقتصادي الجديد الذي يسمى بالعولمة أو الليبرالية الجديدة شكلاٍ جديداً للحياة بكل جوانبهٍ.و أن من أهم هذه الجوانب هي الجانب الثقافي فالهيمنة الاقتصادية تظل بسيطة أمام الفن والثقافة الذي يستهدف إزالة كل الثقافات الإنسانية و فرض الثقافة الأنجلوسكسونية كبديل فبدلا من تصفيف الشعر على الطريقة الأمريكية و تقليد "رامبو" الأمريكي و حتى الأكل على الطريقة الأمريكية أصبح الموديل المسيطر على عقول الشبيبة و أذواقهم في مختلف أنحاء المعمورة.فالإمبريالية الأمريكية عن طريق وسائل الأعلام والتكنولوجيا المعلوماتية على أكمل  وجه، لتخلق جواً من الميوعة وتنكر الذات والاستسلام، دون شك فإن لكل ثقافة نتاج يستحق الاستمتاع  به و الاستفادة منه، و في الثقافة الأنجلوسكسونية أيضاً لإنتاج يستحق التقدير بالفعل، ولكن إذا كان هناك تبادل عادل بين ثقافات مختلفة فمسرحيات شكسبير الرائعة و بعض الأفلام الأمريكية الجيدة أيضاً و لكن كتابات تولستوي و هيغو و أشعار المتنبي وطاغور وأحمد خانى رائعة أيضاً فليكن هناك  "رووك" أمريكي ولكن ليس على حساب الموسيقى الأفريقية أو العربية أو الكردية.هذا الواقع تم مناقشاتها على مختلف المستويات و دل كل مفكر بدلوهِ في هذا الموضوع حيث تحولت العو لمة حديث الساعة في وسائل الأعلام المقروءة منها والمسموعة والمرئية  في محاولة لفهم حقيقة العصر وتثبيت هويته إذا هذه اللوحة فإن النظر إلى الشرق الأوسط للتعرف على موقعه ضمن هذه الخارطة  فإننا نلاحظ حقائق تستحق الدراسة والبحث فالاقتصاد المتخلف و الذي يعتمد على المواد الصناعية بل يشمل حتى الأذواق. لكن الأنظمة السياسية بقيت كما هي في حين أن الديمقراطية هي ذروة الإنتاج الإنساني لبناء عدالة اجتماعية  بين البشر وظلت المادة الغير مرغوبة و الغير مرجحة للاستيراد، في حين أن الديمقراطية ه المادة التي تحتاج إليها  الشرق الأوسط في المرتبة الأولى و أنقسم الشرقيين بذلك بين محافظين على القديم مما يحتوي من رجعية ومساوئ و بين مستسلمين للثقافة الجديدة دون قيد أو شرط. دون شك فإن التنكر للماضي التاريخي العريق هو تنكر للهوية وانسلاخ للشخصية والانهيار و لكن بالمقابل فإن الرد الجديد لأنه عائداً للغير اقتراب رجعي و متخلف.أن القيم الإنسانية و النتاج الأدبي و الثقافي وتطر الحتمي للآلة وما ولدت من وسائل للتطور والرفاه ليس حصراً على فئة معنية أو شعب محدد بل هي ثمرة لنضال المضطهدين والمسحوقين في جميع أنحاء المعمورة إن الشرق جزء لا يتجزأ من العائلة الإنسانية و الانضمام إلى هذه العائلة نتيجة حتمية لا تقبل لترجيح، لذلك فالانضمام إلى هذه العائلة دون تنكر للهوية الثقافية سيضيف إلى الألوان لوناً جميلاً يجعل من تنوع الثقافة غناً ثقافياً وحديقة تضم منكل بستان وردة وهذا الانضمام يتطلب عقلية ديمقراطية تستطيع أن تتفهم المشكلات الديمقراطية لشعوب الشرق الأوسط المكبل بالمصالح الشوفينية والرجعية وخلق الوسط الملائم لحوار ديمقراطي حر بين مختلف  الثقافات وقد آن الأوان  للنقاش على مشكلات الشرق برؤية وذهنية متفتحة ديمقراطية وإيجاد الحلول المناسبة لها، و هذا الأسلوب كفيل بوضع الحلول الناجحة لأكثر المشاكل تعقيداً، فالصراع العربي الإسرائيلي قد أقتص من قدرات الشرق أكثر مما يجب وسخر كل إمكانياته في حرب بلا طائل لها، وخدمت أكثر ما خدمت القوى الإمبريالية وتجار السلاح والمسألة الكردية التي تشغل مركزاً الشرق الأوسط بين العرب والأتراك والفرس ليس أقل أهمية من الصراع العربي الإسرائيلي.فعلى الرغم من الدور التاريخي الذي لعبه ُ ُ الشعب الكردي فأنهُ ُ أصبح على الدوام ضحية للمؤامرات الدولية التي قامت بتقسيم الشرق الأوسط بشكل يخدم مصالحها وليبقى الشعب الكردي محروما ً من أبسط حقوقه ِ الإنسانية و لم تكتفي القوى الرجعية والفاشية في المنطقة عند هذا الحد بل مارست أبشع المجازر الدولية بحق هذا الشعب و فرقت هذه الأنظمة القوى الإمبريالية وزادت من الطين بلة بعلاقاتها المشبوهة مع الأنظمة المعادية للأكراد والقوى الإمبريالية .و على ضوء ما تقدم فإن المسألة الكردية تفرض نفسها على الساحة، و لكن ليست بوسائل العنف والتنكيل بل بطرق السلمية وفي إطار ديمقراطي، والتخلص من العداوات  و التجزئة بين الشعوب، فالشرق الأوسط بأنظمته ِ اللاديمقراطية و التجزئة التي يعانيها تجعل منهُ ضعيفا ً لا يستطيع المقاومة أمام الهجمات الخارجية التي تستهدف هويته ُ، فحل المسألة الكردية هي الخطوة الأولى نحو شرق ديمقراطي  وخطوة أولى نحو فيدرالية حرة، تستطيع أن تلتحق بركب الحضارة، فخورة بموزاييك ثقافي وتاريخ عريق وبعقلية متفتحة بعيدة عن التطرف تحت أسم المحافظة على القديم، وبعيداً عن الميوعة والاستسلام تحت أسم الحداثة و التجديد، وبذلك فقط يستطيع الشرق أن يستفيد من الحضارة والتطور وأن يضيف إلى الحضارة الإنسانية بإبداعات أبنائه ِ بهويتهم المشرقة في مواجهة العولمة وزمن الإنترنت و لأن الشعب الكردي مهيأ لمثل هذا الحل الديمقراطي الكفيل بوضع نهاية لمعاناتهِ ، هذا الشعب الذي يسير تحت راية قيادة متفتحة ومستنيرة فإنهُ يحمل اليوم المشعل الو ضاء وفي الصف الأمامي نحو فيدرالية شرق أوسطية ديمقراطية. فهذه المهمة تذكرنا بالدور التاريخي الذي لعبهُ الأكراد في عهد صلاح الدين الأيوبي، و في مراحل مختلفة من تاريخ الشرق الأوسط. ولكن الشعب الكردي و الشرق الأوسطيين مدعّوون للقيام بهذه المهمة التاريخية التي تليق بماضيهم العريق.