الحركات الكردية المعاصرة -٣-

بدأَ الكردُ سياقَ المعاناةِ من أفظعِ كارثةٍ في تاريخِهم، مع مؤامرةِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء...

عبد الله أوجلان

كانت تجربةُ عصيانِ كوجكري لذوي النزعةِ الانفصاليةِ هامة (1919 – 1920). ويَبدو أنه كان بالمقدورِ إيصالُها إلى مستوى شبهِ الاستقلالِ الكرديّ، لو كانت استُنبِطَت الدروسُ اللازمةُ منها. لكنّ عدمَ كفايةِ قيادتِها، ونواقصَها وعدمَ جاهزيتِها إزاء التحالفِ الوطيدِ جداً بين الأتراكِ الاتحاديين واليهود (كيان الفاشية التركية البيضاء)، فتحَ الطريقَ أمام تصفيتِها باكراً. أما حركةُ التمردِ التي رامَت كَرَدّةِ فعلٍ منها إلى تزعُّمِ "جمعيةِ آزادي" المتأسسةِ في وقتٍ متأخر (1924)، فأُجهِضَت باكراً بالمَكيدةِ الاستفزازيةِ الحاصلةِ في 15 شباط 1925 على نهرِ دجلة في مدينةِ ديار بكر. كان ساطعاً سطوعَ النهارِ أنّ التمردَ المتبعثرَ وغيرَ المنظمِ المنهارَ على عاتقِ الشيخِ سعيد النقشبنديِّ العجوز، كان سينتهي إلى تصفيةٍ ثقيلةِ الوطأةِ على يدِ بورجوازيةِ الجمهوريةِ اليافعة. ثمة خصائصٌ مثيرةٌ في هذا التمرد. فجمعيةُ آزادي بذاتِ نفسِها تنظيمٌ قومويّ. ورئيسُها خالد جبران (اعتُقِلَ قُبَيل التمرد، وأُعدِمَ رَمياً بالرصاصِ في مدينةِ "بدليس" من دون محاكمة) هو أحدُ القوادِ النافذين في الألويةِ الحميدية، وله مساهماتُه الهامةُ على الجبهةِ الشرقيةِ أثناء حربِ التحرير. كما يتسمُ بخصائص تنويرية. أما الشيخ سعيد، فهو أحدُ القوادِ النابغين في المذهبِ الشيعيِّ والطريقةِ النقشبندية. كما أنّ له وزنُه الذي يُحسَبُ له الحساب على طولِ الطريقِ التجاريةِ الممتدةِ من بينغول إلى حلب للمتاجرةِ بالمواشي. أي، بالمقدورِ اعتبارُه بورجوازياً تجارياً. هذا ويَكُونُ الشيخُ عبد القادر ابنَ الشيخِ عبيد الله النهريّ، زعيمِ عصيانِ "النهريّ" المنتفضِ في 1878. وهو أيضاً شيخٌ نقشبنديّ. فضلاً عن كونِ العديدِ من بقايا الإماراتِ المحليةِ على علاقةٍ مع ذلك العصيان.

يُلاحَظُ أنّ جميعَهم يمثلون شريحةً تنامَت كثمرةٍ لسياساتِ الألويةِ الحميدية، وقابلةً للعملِ معها. لكنّ تحالُفَ البيروقراطيين الأتراك المُوالين لألمانيا مع المستثمِرين اليهود (التركياتيةُ البيضاء تشيرُ أساساً إلى هذا الكيان)، والذي يُشَكِّلُ الكوادرَ النواةَ لجمعيةِ الاتحادِ والترقي تحت اسمِ "تركيا الفتاة"؛ اعتَبَرَ منذ بداياتِه القضاءَ على كلِّ الأديانِ والأثنياتِ الأخرى غيرِ المندرجةِ في إطارِه (المسيحية، الإسلام، الكرد، العرب، الشركس) سياسةً أوليةً له. وقد طُبِّقَت هذه التصفيةُ خطوةً وراء خطوة. إذ قُضِيَ على الأرمنِ في 1915، وعلى الشركس في 1921، وعلى الرومِ في 1923، وعلى السُّريانِ والأتراكِ المسلمين (الخِلافة) في 1924، وعلى الكردِ اعتباراً من 1925. وسواء أَسمَينا ذلك بالإبادةِ الجماعيةِ أو بأيِّ اسمٍ آخر، إلا إنهم، وبتعبيرِ عصرِنا، قضَوا على كلِّ الشرائحِ الباقيةِ خارجَ نطاقِهم (تركيا الفتاة = البورجوازية البيروقراطية التركية + اليهود الدونمة والكوادر والمستثمِرين الماسونيين = القوموية التركية + جمعية الاتحاد والترقي + حزب الشعب الجمهوري CHP = الفاشية التركية البيضاء).

رئاسةُ مصطفى كمال باشا في هذه الفترةِ تقتضي التحليلَ بعنايةٍ ودقة. إذ من غيرِ الممكنِ تحقيقُ الفهمِ الصحيحِ لثورةِ التحريرِ الوطنيةِ أو لحقيقةِ الجمهورية، من دونِ تحليلِ الميثولوجيا الكمالية أو الأتاتوركية المتشكلةِ رغماً عن أنفِ مصطفى كمال.

إنّ النظرَ إلى حربِ التحريرِ الوطنيةِ فيما بين 1919 – 1922 على أنها حربٌ داخليةٌ أكثر مما هي تستهدفُ الخارج، سيُسدِلُ الستارَ أكثر عن الحقائق. فما حصلَ هو تمردُ الأناضولِ وميزوبوتاميا المعنيُّ بالانزلاقاتِ الهامةِ للهيمنةِ داخلياً وخارجياً. فبينما كانت السلطاتُ التقليديةُ والهيمناتُ الهرميةُ تنتقلُ من يدٍ إلى أخرى داخلياً، كانت المقاومةُ قائمةً على الصعيدِ الخارجيِّ أيضاً تجاه مساعي الغربِ في بسطِ نفوذِه التامّ. وهكذا تتجلى مرةً ثانيةً الأهميةُ الاستراتيجيةُ لأراضي الأناضول وميزوبوتاميا، مثلما ظلت عليه مدى التاريخ. فالفتحُ التامُّ لهذه الأراضي سوف يُؤَمِّنُ تفوقاً كبيراً للهيمنةِ الغربية. ونظراً إلى تشتُّتِ هيمنةِ السلطنةِ التقليدية، فهي ليست في حالةٍ تخوِّلُها لإعاقةِ انزلاقِ الهيمنةِ في هذا المنحى. أما كيانُ التركياتيةِ البيضاء الاتحادية، فانهزمَ مقابل الإنكليز. إلا إنّ الهيمنةَ الإنكليزيةَ أيضاً تلاقي مشقاتٍ جادةً داخلياً وخارجياً. كما وكانت تحققت ثورةُ أكتوبر السوفييتية، وتبحثُ عن كيفيةِ عقدِ أواصرِها مع التمردِ الجاري في الأناضولِ وميزوبوتاميا. من هنا، فالحملةُ التي رادَها مصطفى كمال باشا في ظلِّ هذه الظروف، كانت مثيرةً وبالغةَ الأهميةِ في آنٍ معاً. إذ من المعلومِ أنه أُقصِيَ من قِبَلِ كوادرِ السلطةِ الاتحاديين. ومن العسيرِ كونُه مُوالياً للإنكليز، بسببِ وضعِه المتمرد. بالتالي، فوضعُه أَشبَهُ بحالِ روبسبيير أكثر منه بنابليون في الثورةِ الفرنسية.

معلومٌ أنّ مَلِكَ فرنسا آنذاك لويس السادس عشر كان استدعى القوى المَلَكيةَ المواليةَ له في أوروبا للوقوفِ في وجهِ الثورةِ التي كانت انفجرَت حينها، وناداها لاحتلالِ فرنسا. هذا الوضعُ شديدُ الشَّبَهِ باتفاقِ السلطان وحيد الدين (محمد السادس) مع الإنكليز. حيث يقومُ روبسبير، أحد أهم الزعماءِ الثلاثة للجبليين ، أي للحزب الثوريِّ البورجوازيِّ الصغيرِ الراديكاليِّ في فرنسا، بانتزاعِ زمامِ القيادة، متجهاً صوب إعلانِ الجمهورية (1791 – 1794) في أجواءٍ تَسودُها أحداثُ العنفِ الضاريةُ جداً في الداخلِ والخارجِ على السواء. وتَرجحُ كفةُ احتمالِ كونِ مصطفى كمال المُطَّلِعِ بأفضلِ وجهٍ على تاريخِ الثورةِ الفرنسيةِ قد تكفَّلَ بأداءِ دورِ روبسبيير عن وعيٍ وقصد. والكلُّ على معرفةٍ بأنّ نجمَه يلمعُ بانتزاعِه زمامَ المبادرةِ أكثرَ بكثير من الباشواتِ الخمسةِ الهامّين الآخرين الذين رادوا التمرد (علي فؤاد جبسوي، كاظم قره بكر، رؤوف أورباي، ورأفت بالا). ويقطعُ أشواطَه إلى أنْ يصلَ إعلانَ الجمهوريةِ بعدَ اشتباكاتٍ ونزاعاتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ مستعرة. جليٌّ بوضوحٍ أنه ثوريٌّ جمهورياتيٌّ نموذجيّ. فدورُه مُعَيِّنٌ في الخطواتِ الثوريةِ الأخرى أيضاً، وعلى رأسِها إلغاءُ السلطنةِ والخِلافة. لكنّ الحقيقةَ الهامةَ الأخرى القائمة، هي قيامُ الإنكليزِ بتغييرِ تكتيكِهم فورَ إدراكِهم وانتباهِهم إلى أنّ مصطفى كمال – الذي يتابعونه عن كثب – سيحرزُ النجاحَ الموفَّق. وعليه، يُدرَجُ، أو بالأحرى يُسَرَّبُ كلٌّ من العقيد عصمت وفوزي باشا الذي كان يتبوأُ وزارةَ الدفاع، دون مواجهةِ عراقيل تُذكَرُ من قِبَلِ الإنكليز. من هنا، فتكفُّلُ الأنشطةِ التاريخيةِ بتسليطِ النورِ على أمرِ التسللِ والتسريبِ هذا، والذي يُترَكُ في الخفاءِ تماماً؛ سينمُّ عن نتائج من النوعِ الذي يفتحُ آفاقاً شاسعة.

كان الإنكليزُ يَرُومون إلى الاتفاقِ مع كوادرِ الثورة، بعدَ سحبِ يدِ الدعمِ سريعاً من اليونانِ إبان معركةِ صقاريا  الناشبةِ في 1922. ويلعبُ تشرشل  دوراً هاماً في ذلك. يتعقَّبُ الإنكليزُ التمردَ عن كثب منذ سنةِ 1922، فيُعيقون تحوُّلَه الراديكاليّ، ويفتحون هُوَّةً بينه وبينه روسيا السوفييتية. كما يُسَوّى أمرُ الشيوعيين والإسلاميين القوميين والكرد. ويُقضى على العناصرِ الثوريةِ ذاتِ الأصولِ القوقازيةِ متمثلةً في أدهم الشركسيّ. والأهمُّ من هذا وذاك هو القضاءُ على أربعةٍ من الباشواتِ الخمسةِ الألمَع في الثورة. كما ويتمُّ التذرعُ بالتمردِ الكرديِّ لينالَ "الحزبُ التقدميُّ الجمهوريُّ " أيضاً نصيبَه من حملاتِ التصفيةِ تلك، كونَه لا يندرجُ في التركياتيةِ البيضاء، بل هو حزبٌ تركيٌّ معارِضٌ قومويٌّ وطائفيّ. أي إنّ العصياناتِ الكرديةَ تؤدي دورَ الرافعةِ في انتقالِ السلطةِ إلى يدٍ أخرى، وانطباعِها باللونِ الفاشيّ. فمصطفى كمال، الذي كان على علاقةٍ طيبةٍ مع النابغين من الكردِ (في بدليس وسيرت وديار بكر) منذ سنةِ 1916، أي قبل الحرب، يُعَزِّزُ هذه العلاقةَ أكثر فأكثر أثناء الحرب. ويُنهي تمردَ كوجكري بالوِفاق. هذا ويتمُّ ضمانُ حقَّ العنصرِ الكرديِّ في المساواةِ بدستورِ تركيا الأساسيِّ لعامِ 1921. وتُعَزَّزُ الثقةُ المتبادَلة، مع "قانونِ الحكمِ الذاتيِّ الكرديّ" المُذَيَّلِ بتاريخِ 10 شباط 1922. أما في المؤتمرِ الصحفيِّ المنعقدِ في إزميت بتاريخِ 16 – 17 كانون الأول 1924، أي بعدَ تأسيسِ الجمهورية، فيتحدثُ مصطفى كمال عن أوسعِ نطاقاتِ الاستقلالِ الذاتيِّ من أجلِ الكرد. وعندما أُرغِمَ الكردُ على التمرد، فُرِضَ على فتحي أوكيار –الذي كان يعتلي منصبَ رئيسِ الوزراءِ آنذاك، وصديق الطفولةِ لمصطفى كمال، وأقربُ الكوادرِ المقرَّبين إليه– تقديمُ الاستقالةِ لأنه قال "لن ألطخَ يدي بمجازرِ الكرد". هكذا يحصلُ الانتقالُ إلى عهدِ عصمت إينونو وفوزي جاقماق تَحَجُّجاً بالعصيانات.

ومع محاولةِ اغتيالِ مصطفى كمال في إزمير، تتسارعُ وتيرةُ مرحلةِ شلِّ تأثيرِه. ربما لَم يتعرضْ مصطفى كمال لإبادةٍ جسديةٍ مثل روبسبيير، ولكن، بالإمكانِ النظرُ إلى تطويقِ جانكايا على يدِ طوبال عثمان ، وإلى محاولةِ الاغتيالِ في إزمير على أنهما عمليتان مُميتتان تُوَضِّحان مدى تضييقِ الخِناقِ على مصطفى كمال من قِبَلِ الكوادرِ الاتحاديين المُوالين للإنكليزِ والمُحيطين به. فما تَبَقّى من مصطفى كمال الثوريّ، مجردُ صورةٍ إلهيةٍ محبوسةٍ في جانكايا، مشلولةٍ ولا حولَ لها ولا قوة، سياسياً وعسكرياً على حدٍّ سواء. وبينما حُمِّلَت هذه الصورةُ عبءَ كافةِ مساوئِ الديكتاتوريةِ الفاشيةِ البِدئية، فإنّ جميعَ نِعَمِ تلك الديكتاتوريةِ أُغدِقَت على المُخَلَّفاتِ الاتحاديةِ المتكومةِ في CHP. وما تجربةُ مصطفى كمال في تأسيسِ "الحزب الجمهوريّ الليبراليّ" في 1930، سوى ردةُ فعلٍ منه على هذه المرحلة. ولكنه خائرُ القوى إلى درجةِ أنّ هذا الحزبَ الذي أسسَه عن طريقِ كلٍّ من فتحي أوكيار، أقرب أصدقائِه إليه، وأختِه مقبولة خانم لَم يستمرّْ سوى ثلاثة أشهرٍ فقط لا غير، بالرغمِ من ترسيخِه إلى درجةٍ ليست بالهيِّنة. هذا ولَم تتوانَ رئاسةُ عصمت إينونو وفوزي جاقماق عن تصفيةِ هذه الحملةِ الديمقراطيةِ الهامةِ بحادثةِ مانامان الاستفزازية  الرجعيةِ الاستفزازيةِ في هذه المرة.

باختصار؛ فالفصلُ بين حقيقةِ مصطفى كمال وحقيقةِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء لجمعيةِ الاتحاد والترقي وCHP، يتسمُ بأهميةٍ كبرى من أجلِ التمكنِ من الوصولِ إلى تقييماتٍ صحيحةٍ وصياغةِ تحليلاتٍ صائبة. وعلى ضوءِ هذه التحليلاتِ الجديدة، سوف نستطيعُ التحلي بالإدراكِ الأصحِّ لممارساتِ الإنكارِ والإبادةِ المُطَبَّقةِ بحقِّ الكردِ والحركةِ الكرديةِ في عهدِ الجمهورية، ولمحاولاتِ التصفيةِ المُسَيَّرةِ بأساليبِ الصهرِ والإبادةِ الثقافية. وأحدُ المحاورِ الأوليةِ لهذه المرافعة، هو التمكنُ من صياغةِ تحليلٍ في هذه الوِجهة.

حسب رأيي، بدأَ الكردُ سياقَ المعاناةِ من أفظعِ كارثةٍ في تاريخِهم، مع مؤامرةِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء المُبتَدَأةِ في 15 شباط 1925. فالمؤامرةُ التي حيكَت للكردِ في 1925 أشملُ نطاقاً وممتدةٌ على زمنٍ أطول بكثير من تلك المُطَبَّقةِ على الأرمنِ في 1915. وموقفُ هتلر الذي سَلَكَه لدى انشغالِه بإبادةِ اليهود، والذي مفادُه "مَن حَرَّكَ ساكناً تجاه تصفيةِ الجون تورك للأرمن؟"؛ يَسردُ بكلِّ علانيةٍ جذورَ المؤامرةِ الفاشيةِ ومدى الأهميةِ العظمى لمُمارساتِها الأصل. لقد حاولتُ صياغةَ تحليلٍ للحداثةِ الرأسمالية، بغرضِ إثباتِ كونِ أيديولوجيا الدولتيةِ القومية، بل الدولةِ القوميةِ بالتحديدِ مصدرَ الفاشيةِ في آخِرِ المطاف. أو بالأحرى، لإظهارِ كيفيةِ تطورِ النظامِ الفاشيّ، الذي هو خاصيةٌ هامةٌ من خصائصِ الدولةِ القومية؛ ولعرضِ عُراه مع النظامِ الرأسماليِّ على المَلأ. أما "هوبز"، مُنَظِّرُ الهيمنةِ الرأسمالية، فيَقتبسُ مصطلحَ "اللوياثان" (الوحش) من التوراةِ في إشارةٍ منه إلى سلطةِ الدولة، ويقومُ بتجسيدِه في الرأسمالية، وفي إنشاءِ سلطتِها، وفي الطابعِ الفاشيِّ لذلك الإنشاءِ أكثر من أيِّ شيءٍ آخر. وتجربةُ سلطةِ الجون تورك (هذا المصطلحُ رمزيٌّ محض، ولا علاقة له بالأتراكِ على الصُّعُدِ السوسيولوجيةِ والاجتماعيةِ والتاريخية)، جديرةٌ بدراستِها وتناوُلها بأهميةٍ فائقة؛ نظراً لتمثيلِها ذلك التجسيدَ بنحوٍ صاعق، ولاتسامِها بقيمةٍ عالمية. وقد حاولتُ تجربةَ ذلك، ولو على مستوى مسودةِ مشروع.

إنّ الحِراكَ الكرديَّ القائمَ في الفترةِ ما بين عامَي 1925 و1940، والذي سُعِيَ إلى الحُكمِ عليه ووصمِه بالتمردِ الرجعيِّ على نظامِ الجمهورية؛ هو حِراكٌ يهدفُ من حيث المضمونِ إلى الحفاظِ على الوجودِ الذاتيِّ في وجهِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء، وإلى التصدي لحملةِ تصفيةِ الهويةِ الكردية. فالكردُ كشعبٍ كانوا قد ساهموا من الصميمِ في حربِ التحريرِ الوطنيةِ وفي تشييدِ صرحِ الجمهوريةِ على حدٍّ سواء. وكونُهم ساهموا كعناصر أصليين، هو أمرٌ منصوصٌ عليه في وثائقِ جميعِ الاجتماعاتِ الهامة، ومعاهدةِ أماسيا، ووثائقِ مؤتمرَي أرضروم وسيواس، والعديدِ من قوانينِ البرلمانِ التركيّ، بل وحتى في دستورِ تركيا الأساسيِّ لعامِ 1921. فما يُشَكِّلُه التحررُ الوطنيُّ بالنسبةِ للشعبِ التركيّ، إنما يحملُ معانيَ مشابهةٍ بالنسبةِ للشعبِ الكرديِّ أيضاً. حيث لَم تُؤَسَّسْ الجمهوريةُ باعتبارِها جمهوريةَ الأثنيةِ التركيةِ الخالصة، بل كانت شُيِّدَت اعتماداً على البنى الأثنيةِ التعدديةِ وفي مقدمتِها الكرد، وكانت أُضفِيَت عليها مثلُ هذه المعاني. علاوةً على أنّ هويةَ الكادحين وهويةَ الأمةِ الإسلاميةِ كانتا تُعتَبَران هويتَين مؤسِّستَين. هذا وكان الدعمُ السوفييتيُّ علنيّاً. لكن، وعندما تمّ تبنّي التيارِ التركياتيِّ للتقاليدِ الاتحادية، والذي يرتكزُ إلى مفهومِ الأثنيةِ الواحدةِ كأيديولوجيةٍ رسمية؛ أُقصِيَت جميعُ العناصرِ الأخرى كأمرٍ لا مهرب منه. وأدت أبسطُ مطالبةٍ لهم بحقوقِهم إلى الإبادة. أما زيادةُ عددِ السكانِ الكرد، والمصاعبُ الناجمةُ عن ذلك لدى محاولةِ القضاءِ عليه؛ فلعبَ دوراً ليس بقليلِ الشأنِ في تقديمِ التنازلاتِ من الميثاقِ الملليّ، والتخلي عن الموصل وكركوك لصالحِ الهيمنةِ الإنكليزية، وفي الاتفاقِ مع إنكلترا بصددِ الإقرارِ بتصفيةِ الكردِ وجوداً وحركةً. بمعنى آخر، وكيفما استُخدِمَ التحالفُ مع ألمانيا في إبادةِ الأرمن، فقد استُخدِمَ الاتفاقُ مع إنكلترا بصددِ الموصل – كركوك أيضاً في إبادةِ الكرد. أي إنّ القوى الخارجيّةَ لَم تُقَدِّمْ دعمَها لصالحِ الكردِ في التمرداتِ الكردية، مثلما يُزعَمُ ويُرَوَّجُ له كثيراً؛ بل لصالحِ النظامِ الفاشيِّ ضد الكرد، بما في ذلك دعمُ روسيا السوفييتيةِ أيضاً.

كانت العناصرُ الفاشيةُ قد شنَّت حرباً خاصةً علنيةً ومستترةً ضد الكردِ حتى قبلَ شبكةِ غلاديو التابعةِ للناتو. كانت ظاهرياً تدافعُ عن قيمِ الجمهوريةِ في وجهِ العناصرِ الرجعيةِ المُناهِضةِ للجمهورياتية. علماً أنه لَم يَكُنْ للكردِ أيُّ حِراكٍ مضادٍّ للجمهورية. بل كانوا يطالبون بحقِّهم في المساواةِ والحرية، والذي وُعِدوا به أثناء سياقِ التحريرِ الوطنيِّ ولو بشكلٍ سطحيّ. ولهذه المطالبِ جذورُها التاريخيةُ التي كانت تبدأُ من معركةِ ملازكرد 1071 إلى معركتَي جالديران 1514 ومرج دابق 1516، وتمتدُّ منهما إلى حربِ التحريرِ الوطنيةِ فيما بين 1919 – 1922؛ لتُخَلِّفَ وراءَها حوالي قرونٍ تسعةٍ عاش فيها الكردُ مع الغيرِ جنباً إلى جنبٍ كشعوبٍ صديقةٍ ومتجاورة، مُؤَمِّنين بذلك سيرورةَ سلطةِ الدولةِ معاً. بينما لَم يَكُ لإقصائِهم أيةُ ذريعةٍ أو حجةٍ تاريخيةٍ أو اجتماعية. إلا إنّ الكردَ كانوا يجهلون الحقيقةَ الفاشيةَ للحداثةِ الرأسمالية، وكانوا عاجزين عن استيعابِ الورشةِ الفاشيةِ المنتصبةِ في وجهِهم. بل كانوا يتحركون بموجبِ قانونِ الدولةِ التقليديةِ المشتركةِ وشعوبِ الجوار، ويُعَوِّلون على ذلك.

في الحقيقة، لَم يَكُ ثمة مثالٌ آخر في تاريخِ البشريةِ أيضاً، يُشبِهُ مشروعَ خلقِ المجتمعِ القوميِّ النمطيّ، والذي لا يبرحُ قائماً في أوروبا طيلةَ القرونِ الثلاثةِ الأخيرة. وعلى سبيلِ المثال، جليٌّ تماماً أنّ اليهودَ أيضاً، والذين هم أثرى وأوعى شعبٍ عرفَه التاريخ، لَم يكونوا يتوقعون ممارسةً تَصِلُ حدَّ التطهيرِ العرقيِّ بحقِّهم؛ وإلا، لَما بقيَ يهوديٌّ واحدٌ فقط في أوروبا. ما كان لسلطةِ الرأسماليةِ عموماً، ولسلطةِ الديكتاتوريةِ الفاشيةِ بوصفِها رأسماليةَ الدولةِ خصوصاً أنْ تُنَظِّمَ نفسَها ميدانياً من دونِ إبادةٍ جماعية. كذا، فمقوماتُ الحداثةِ الرأسماليةِ المنقولةُ إلى الجمهوريةِ التركية، والمفروضةُ عليها من الخارج؛ ما كان ممكناً تطبيقُها، إلا بِيَدِ الدولة، وبنموذجِ السلطةِ الفاشية. أما قيامُ الفاشيةِ بأداءِ دورٍ أشدَّ تأثيراً في العديدِ من تجاربِ الدولِ القوميةِ المتأخرة، فيُعزى إلى رأسماليةِ الدولة. بَيْدَ أنه من المحالِ الحديثُ عن رأسماليةٍ لا ترتكزُ إلى الدولةِ القومية. وحسبَ الظروفِ العينية، كان بإمكانِ تجاربِ الفاشيةِ أنْ تَكونَ شديدةَ الصرامةِ أو من النوعِ المرن. فمثلاً، وبالرغمِ من كونِها نظاماً يُطَبَّقُ ضمن مناطق معدودةٍ في دولٍ ظروفُها مساعِدةٌ لذلك مِثل إنكلترا والولاياتِ المتحدةِ الأمريكية؛ إلا إنه كان بالإمكانِ مناهَضةُ تطبيقِها أيضاً في بعضِ الأحايين، انطلاقاً من الأهدافِ المتطلعةِ إلى ترسيخِ نظامٍ ليبراليّ. فالمرونةُ التي في النظامِ كانت تُتيحُ مجالَ ذلك. علاوةً على أنّ تجاربَ المجتمعِ على دربِ الكفاحِ الديمقراطيِّ لَم تَسمَحْ في أيِّ بلدٍ من البلدانِ بالنُّظُمِ الفاشيةِ على المدى الطويل. والأحداثُ المُعاشةُ في الجمهوريةِ التركيةِ تتناغمُ وهذه الميولَ العامة. حيث إنّ تَألُّفَ حربِ التحريرِ الوطنيةِ وسلطةِ الدولةِ من العديدِ من الأممِ على مدارِ التاريخ، لَم يَكُن يُعطي الفرصةَ لتطوُّرِ العناصرِ الرأسماليةِ الفاشيةِ بشكلٍ راسخٍ ودائمٍ يطالُ جميعَ المناحي الاجتماعية. هذا وكانت الثقافةُ الإسلاميةُ وحركاتُ الكادحين الطبقيةُ أيضاً عواملاً تَحدُّ من الفاشية. إلا إنّ التجاربَ المؤثرةَ للدولةِ الفاشيةِ المنيعةِ في أوروبا ذاك العهد (1919 – 1945)، قد أثرَت في نظامِ الجمهوريةِ أيضاً. والحصةُ الكبرى من هذه السياساتِ الفاشيةِ المُطَبَّقةِ بحقِّ المكوناتِ الأخرى أيضاً، كانت من نصيبِ الكرد.

وانطلاقاً من طابعِ التطهيرِ العِرقيِّ والصهرِ لتلك الممارسات، يُفهَمُ أنّ التمرداتِ كانت لا تستندُ إلى خلفيةٍ فكريةٍ أو خطةٍ أو مشروعٍ أو برنامجٍ مُسبَق، بل تفتقرُ إلى المواقفِ الاستراتيجيةِ والتكتيكية. كما كانت غابت فيها الاستعداداتُ وتحديدُ التوقيتِ المناسبِ سلفاً. وجميعُ المخططاتِ المُطَبَّقة، بدءاً من "قانونِ إصلاحِ الشرق" الصادرِ بتاريخِ 1925، وحتى "قانون السكن الإجباريّ" (1935)، كانت تهدفُ إلى القضاءِ على وجودِ الكرد. أي أنّ ما يُرتأى سلفاً لَم يَكُنْ مقتصراً فقط على تصفيةِ الكردِ تنظيماً وممارسةً، بل وكان يستهدفُ تصفيتَهم وجوداً أيضاً. والقاعدةُ الساريةُ هنا أيضاً هي نفسُها: إنْ كنتَ تودُّ البقاءَ حياً وثرياً، فعليكَ التخلي عن هويتِك الكردية!

يستحيلُ صياغةُ تعريفٍ صائبٍ أو تحليلٍ قويمٍ لأيِّ عنصرٍ أو حركةٍ معاصرةٍ معنيةٍ بالهويةِ الكردية، من دونِ فهمِ نموذجِ الإبادةِ الجماعية، الذي طوَّرَته الحداثةُ الرأسماليةُ التركيةُ لأجلِ الكردِ خصيصاً. وتحليلُ الحداثةِ الرأسماليةِ التركيةِ بدورِه مستحيل، من دونِ تحديدِ دورِ رأسِ المالِ اليهوديِّ والاحتكارِ الأيديولوجيِّ اليهوديِّ فيها. حيث إنّ التحليلاتِ المجرَّدةَ بشأنِ الرأسماليةِ أو الدولةِ أو التاريخِ والمجتمع، لا تملكُ القدرةَ على إيضاحِ وشرحِ الحداثةِ الرأسماليةِ التركيةِ بمفردِها. والأهمُّ من كلِّ ذلك، هو أنّ لكلِّ طرفٍ "انفرادياتُه" و"واحدياتُه" الخاصةُ به، سواء الحداثةُ الرأسماليةُ التركية، أم الهويةُ والحركاتُ الكرديةُ الرازحةُ بين فكَّي تلك الحداثة. أنا لا أقولُ بانعدامِ الخصائصِ الكونية. لكنّ ما يتعينُ تحديدُه ليس التشابهاتِ الكونية. فكلُّ معنيٍّ بالأمرِ على علمٍ بذلك، قليلاً كان أم كثيراً. في حين إنّ الواقعَ المجهولَ الذي لا يُرادُ معرفتُه، بل يُصَيَّرُ مُحَرَّماً ومُسَلَّماً به، ويُطمَسُ ويُحَرَّف؛ هو الخصائصُ التي لا ندَّ لها من ناحيةِ تلك "الانفرادياتِ" و"الواحديات"، بل تُشَكِّلُ مثالاً منفرداً بذاتِه ولذاتِه. وبسطُ ستارٍ حالكِ الظلامِ على تركيا الحديثةِ والتاريخِ الكرديِّ القريب، إنما يعني إنكارَ تلك المُسَلَّماتِ والواحديات. أو بالأحرى، هو دليلٌ على عدمِ صياغةِ تحليلٍ سليمٍ وكاملٍ حولَها. والدافعُ وراء ذلك هو علاقةُ النظامِ المُطَبَّقِ بالمؤامراتِ الخفية، وبمخططاتِ الحربِ الخاصة، وبأساليبِ الإبادةِ الثقافيةِ الجماعيةِ والصهرِ الشامل. ومخططاتُ تصفيةِ الأرمن، التي هي بمثابةِ تجربةٍ تمهيدية؛ تُسَلطُ النورَ بأفضلِ وجهٍ على الممارساتِ الشبيهةِ اللاحقةِ لها. علماً أنها لَم تُفرَضْ على العناصرِ الأثنيةِ والشعوبِ فحسب؛ بل ونالت العناصرُ الاشتراكيةُ والليبراليةُ والقوميةُ أيضاً نصيبَها منها بما يزيدُ عن اللزوم. هذه الممارساتُ التي تتجسدُ بأفضلِ صُوَرِها في الدولتيةِ القوميةِ التركية، تتصفُ بكونِها نظاميةً ومنظَّمة، ولا تفتأُ مستمرةً إلى يومِنا الحاليِّ متثاقلةَ الوطأةِ بازدياد. بمعنى آخر، فهي ليست ممارساتٍ مرحليةً أو مؤقتةً يُلجَأُ إليها بين الحينِ والحين. بل إنها مفاهيمٌ وممارساتٌ رسميةٌ لها احتكاراتُها الأيديولوجية، ومُسَلَّطةٌ على كلِّ المؤسساتِ الاستراتيجية. أما الواقعُ العالميُّ المعاصرُ والمعاهداتُ الدولية، بل وكفاحاتُ الشعوبِ وحملاتُ الثقافاتِ الاجتماعيةِ في الدفاعِ الذاتيّ، والتي هي أهمُّ من غيرِها؛ فما من ريبٍ في أنّ جميعَها سدَّ الطريقَ أمام النجاحِ المطلقِ للنظامِ الفاشيّ.

كادَ الوجودُ الكرديُّ بحيويتِه وعنفوانِه يخسرُ الكثيرَ الكثير في الفترةِ ما بين سنواتِ 1925 و1945، وكأنه سَكَنَ إلى صمتِ القبور، واكتفى بالبقاءِ جسدياً. ولَئِنْ سادَ العجزُ عن تصفيتِه جسدياً على غِرارِ الأرمن، فهذا لا يَرجعُ إلى إنصافِ وعدالةِ مطبِّقي التصفية، بل إلى حساباتِ انتزاعِ المزيدِ من المكاسبِ من الكردِ المُتَشَيِّئين (التجنيد، الزراعة، تربية الحيوان، اليد الرخيصة في الحقول، وجيش أشباهِ العاطلين عن العمل). الأرمنُ والسُّريانُ والرومُ شعوبٌ متحضرةٌ وراقية، ولا تكتفي بالاقتصارِ على الحياةِ الجسديةِ وحسب. لكنّ الوضعَ يختلفُ لدى الكرد. إذ ما هو قائمٌ هنا هو تشييئُهم بكلِّ معنى الكلمة، وتصييرُهم أداةً. بالتالي، فالاختلافُ بينه وبين تلك الشعوبِ ينبعُ من هذا الواقع. أما الأقلياتُ الأخرى التي لَم تَطَلْها التصفية، وبالأخصِّ تلك المنحدرةُ من الأصولِ البلقانيةِ والقوقازية، وكذلك اليهود؛ فلَم تستطعْ الحفاظَ على وجودِها، إلا بمحاكاةِ الأتراكِ وتَقَمُّصِ التركياتيةِ أكثر من التركيِّ نفسِه. ولا تنفكُّ مثابرةً على هذه الحال، فيما خلا أمثلةٍ محدودةٍ واستثنائيةٍ أسفرَ عنها الكفاحُ الثوريُّ الديمقراطيّ. واليهودُ هم مَن تتميزُ حالتُهم بالخصوصيةِ أكثرَ من غيرِهم. فتواجُدُهم في بلادِ الأناضول، قوتُهم الأيديولوجية، حالةُ رأسِ المالِ والثراءِ لديهم، ومقتضياتُ الاستراتيجيةِ الصهيونية؛ كلُّ ذلك جعلَ من منزلتِهم على المستوى الرياديِّ في التركياتيةِ البيضاء. ولكن، من غيرِ الصحيحِ تعميمُ ذلك بشأنِ اليهودِ أيضاً. إذ لا يُمكنُ الاستخفافُ بمساهماتِهم – هم أيضاً – في النضالِ الثوريِّ الديمقراطيِّ أثناء سياقِ التحريرِ الوطنيّ.

حَذَت الأحداثُ والمستجداتُ الجاريةُ في الأجزاءِ الأخرى من كردستان المُجزَّأةِ حَذوَ المجرياتِ الحاصلةِ ضمن نموذجِ الحداثةِ التركيةِ على وجهِ التقريب. فما طَبَعَ السياسةَ الكرديةَ في ذاك العهدِ بطابعِه، وما مهَّدَ السبيلَ أمام تأثيراتٍ مُعَيِّنة؛ هو نموذجُ الحداثةِ الرأسماليةِ التركيةِ المناهِضُ للكرد. أفضى استمرارُ نظامِ الانتدابِ الفرنسيِّ في سوريا حتى الحربِ العالميةِ الثانيةِ إلى توفيرِ أجواءٍ نسبيةٍ من الحريةِ بالنسبةِ للمتنورين الكردِ الذين لَم يَلقَوا مشقاتٍ تُذكَرُ في إصدارِ المجلاتِ وتأسيسِ التنظيمات. ومع ذلك، سادَ القصورُ في ترسيخِ وضعٍ كرديٍّ قانونيّ. ومن أهمِّ الأنشطةِ في تلك الفترة، هي متابعةُ جلادت علي بدرخان ومحيطُه للممارساتِ المناهِضةِ للكرد، وشروعُه بتجربةِ الكفاحِ المسلَّحِ ضدها (تجربةُ عثمان صبري  في حربِ الأنصارِ على ذرى جبالِ كاهاتا )، وعملُه على تأسيسِ منظمةِ خويبون (إنها تسميةٌ صائبةٌ حيث تعني "كينونة الذات" أو"كَنَه الذات") رداً على عصيانِ آغري، وإصدارُه مجلةَ هاوار . هذا وكانت له العديدُ من المبادراتِ الدبلوماسيةِ أيضاً. لكنّ أياً منها لَم تَقدرْ على إحرازِ النجاحِ المأمول. ومع ذلك، فمن الساطعِ جلياً مدى أهميةِ هذه النشاطات حينذاك، في حالِ وضعِ محاولاتِ محوِ الذاكرةِ وإفنائِها نُصبَ العين. إنّ قصةَ حفنةٍ من المتنورين في سوريا مُحزِنةٌ حقاً. وهي تجاربٌ تتطلبُ البحثَ والنبشَ، واستخلاصَ الدروسِ اللازمةِ لفهمِ تلك الفترة. النقطةُ التي يتعينُ الإشارةُ إليها والتشديدُ عليها بأهمية، هي استخدامُ فرنسا للكردِ كورقةٍ رابحةٍ في يدِها آنئذ، سواء لدى عقدِ علاقاتِها مع تركيا، أم أثناء رسمِها الحدودَ السورية؛ ولو أنّ مساوئَ ذلك لَم تبلغْ مرتبةَ ما فعلَته إنكلترا بصددِ العراق. لقد اقتربَت فرنسا بموقفٍ أنانيّ، ولعبَت دوراً طليعياً في تقسيمِ كردستان في العصرِ الحديثِ مع اتفاقيةِ أنقرة 1921.

يتحلى الحِراكُ الجاري في كردستان العراق خلال هذه الفترةِ بأهميةٍ أكبر بكثير. فالكردُ هنا لَم يتقبلوا الهيمنةَ الإنكليزيةَ مثلما هي عليه، وتصدَّوا للسياساتِ المواليةِ للعرب. وكانت السليمانيةُ بمثابةِ بؤرةِ الحركاتِ في هذه المرحلةِ أيضاً. فمقاومةُ محمود البرزنجي، الذي وَحَّدَ خصائصَ المشيخةِ وزعامةِ القبيلةِ والبيكَويةِ في شخصيتِه، تتميزُ بالأهمية. حيث تحرَّكَ علانيةً، وتطلَّعَ لأولِ مرةٍ إلى سلطةٍ سياسيةٍ خاصةٍ بكردستان. هذا ولَم يُذعنْ لإنكلترا بسهولة، بل قاومها مدةً طويلةً من الزمن. ومِثلُ هذا الأمرِ يَسري على البارزانيين اعتباراً من الحربِ العالميةِ الأولى. فإعدامُ الشيخ عبد السلام البارزانيّ  في 1914، متعلقٌ باقتفائِه أَثَرَ الشيخ عُبيد الله. إذ عاندَ في التشبَّثِ بنيلِ الكردِ لحقوقِهم. وقيادةُ ابنِه مصطفى البارزاني من بينِ أولادِه بشكلٍ خاصّ، هي انطلاقةٌ هامةٌ أخرى لتلك المرحلة. حيث سلكَ مسارَ حياةٍ جوّالةٍ على مثلثِ تركيا – إيران – العراق. لقد لعبَ كِلا الزعيمَين دورَ آخِرِ ممثلَين للقياداتِ التقليديةِ حتى الحربِ العالميةِ الثانية.

يتبع...