الحركات الكردية المعاصرة -٤-

رَكَنَت الحركةُ الكرديةُ إلى صمتٍ قاتل، مع تصفيةِ جمهوريةِ مهاباد بعد الحربِ العالميةِ الثانية...

عبد الله أوجلان

أسوأُ حدثٍ شهدَه تاريخُ كردستان المعاصر، هو قيامُ الجمهوريةِ التركيةِ والإمبراطوريةِ الإنكليزيةِ برسمِ الحدودِ العراقيةِ – التركية. والذي كان دلالةً على انقسامِ جسدِ كردستان. وأهمُّ مؤثرٍ دفعَ إلى رسمِ الحدود، هو التخوفُ والقلقُ الذي ساقَ إلى سدِّ الطريقِ أمام الحركةِ القوميةِ الديمقراطيةِ التي دخلَت جدولَ أعمالِ الكردِ بسرعةٍ ملحوظة. فلو أنّ الحركةَ القوميةَ الكرديةَ تنامَت بنوعيةٍ ومزايا عصرية، لَما كانت تحققَت مطامعُ إنكلترا في نفطِ العراق، ولا كان بالإمكانِ تحوُّلُ الجمهوريةِ التركيةِ إلى دولةٍ قوميةٍ مصبوغةٍ بالفاشيّة. وفي حالِ انضواءِ الكردِ الذين في إيران تحت لواءِ الحركةِ القوميةِ الكردية، لَكانت تَعَسَّرَ وتعثَّرَ انبساطُ الهيمنةِ الإنكليزيةِ على المنطقةِ بنحوٍ جادّ. وبالتالي، ما كان لخطةِ تصفيةِ الكردِ التي هدفَت إليها الجمهوريةُ التركيةُ أنْ تتحقق. هذا هو التعبيرُ المنطقيُّ للاتفاقيةِ المُبرَمةِ بشأنِ الموصل وكركوك بالنسبةِ إلى كِلا الطرفَين، والتي تَعُودُ ركيزتُها إلى مؤتمرِ القاهرةِ المنعقدِ في 1920. أحدُ أهمِّ تشخيصاتِ ذلك المؤتمر، هو الإبقاءُ على القضيةِ الكرديةِ في الأجندةِ باستمرار، للتمكنِ من تأمينِ سَرَيانِ وبسطِ الهيمنةِ الراسماليةِ في الشرقِ الأوسط. وبإضافةِ قضيةِ الصراعِ الإسرائيليِّ – الفلسطينيِّ أيضاً إلى ذلك، فسوف يُفهَمُ بأحسنِ الأشكالِ من خلالِ المستجداتِ والأحداثِ الحاصلةِ لاحقاً، مدى التفكيرِ الطويلِ الأمَدِ الذي تتسمُ به القوى الهيمنة، والخططِ البعيدةِ المدى التي ترسمُها فيما يتعلقُ بتقسيمِ البلدانِ والشعوب، وفي فرضِ أوضاعٍ من التَّبَعِيّةِ عليها. أي إنّ الدافعَ الأوليَّ وراء تَجَنُّبِ حلِّ القضيةِ الكردية، هو حساباتُ الهيمنةِ على المنطقة. والأحداثُ الجاريةُ في كردستان العراق، قد عَرضَت تلك الحساباتِ على المَلأِ بكلِّ شفافيةٍ ونقاوة. هذا ومن المحالِ استصغارُ شأنِ الحساباتِ عينِها في استشراءِ وتفاقُمِ وطأةِ القضايا في الأجزاءِ الأخرى. كما ويُلاحَظُ أنّ نفسَ الحساباتِ لا تزالُ مستمرّةً حالياً في تناوُلِ موضوعِ PKK أيضاً.

حصلت مستجداتٌ مشابهةٌ في كردستانِ إيران أيضاً آنذاك. فنموذجُ التصفيةِ الذي طَبَّقَته تركيا، اقتدى به الشاه رضا أيضاً. فضلاً عن استمرارِ حركةِ التصفيةِ التي تستهدفُ وجودَ الكردِ بأقصى وتيرةٍ لها، بعدَ البلوغِ إلى اتفاقٍ مع القوتَين المهيمنتَين إنكلترا وروسيا. فالحركةُ التي أثَّرَت في كردستان بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى بزعامةِ سمكو، سُوِّيَ أمرُها وقُضِيَ عليها حصيلةَ اتفاقِ تركيا وإنكلترا مع إيران، ودعمِهما للشاه. كما إنّ "جمهوريةَ مهاباد الكرديةَ" أيضاً، والتي أُعلِنَ عنها إبان الحربِ العالميةِ الثانية، نُسِفَت من الوجودِ بعدَ إدراجِ روسيا السوفييتيةِ أيضاً في الاتفاقِ نفسِه.

كانت الفترةُ ما بين الحربَين العالميتَين الأولى والثانيةِ مرحلةً ستتصاعدُ فيها الحركةُ القوميةُ الكرديةُ المعاصرة. لكنّ تجزيءَ كردستان، وتصفيةَ الحركاتِ السقيمةِ التي ظهرَت فيها، ومن ثم تطبيق سياساتِ الصهرِ الشديدةِ الوطأةِ قضى على فرصةِ التحولِ إلى حركةٍ قوميةٍ معاصرة. كما أدت الألويةُ الحميديةُ الدورَ المُعيقَ عينَه قبلَ الحربِ العالميةِ الأولى. وكِلتا المرحلتَين تُعادِلان نصفَ قرنٍ تقريباً. وفي غضونِ نصفِ القرنِ هذا، كانت الحركاتُ القوميةُ بدأَت بالتطورِ والنضوجِ بين صفوفِ جميعِ الشعوبِ التي تتميزُ بالخصائصِ المماثلةِ على الصعيدِ العالميّ. إلا إنّ الكردَ كانوا أضاعوا فرصةَ النجاحِ والتحولِ إلى حركةٍ قوميةٍ معاصرة، نتيجةَ الألويةِ الحميديةِ وحملاتِ التقسيمِ والتجزيء. وإذ ما وضَعنا حالاتِ العقمِ المستمرةِ إلى يومِنا الراهنِ في الحُسبان، فسنزدادُ فهماً لِما جرى خُسرانُه بالألاعيبِ الاستعماريةِ الإمبرياليةِ التي دامَت ما يُقاربُ قرناً بأكملِه.

ينبغي البحثُ والتدقيق بأغوارٍ أعمق في أسبابِ عدمِ تطوُّرِ الحركةِ القوميةِ الكرديةِ بزعامةِ البورجوازية، على غِرارِ ما حصلَ في عمومِ العالَمِ خلال ذلك القرن، أو في دوافعِ بقائِها سقيمةً وضحلةً للغاية. أما سلوكُ موقفٍ ماديٍّ بحتٍ بِعَزوِ هذا الوضعِ إلى عدمِ تطورِ الرأسماليةِ وبالتالي الطبقةِ البورجوازيةِ كظاهرةٍ موضوعية؛ فهو توضيحٌ ناقصٌ غيرُ مُقنِع. إذ تطورَت حركاتٌ قوميةٌ أكثر نجاحاً في العديدِ من الأوطانِ المشابهة. وعلى سبيلِ المثال، فالحركةُ القوميةُ التركيةُ التي تداخلَت معها، تنامَت استناداً إلى ظروفٍ شبيهة، فازدادَت توفيقاً. كما إنه من غيرِ الصائبِ أيضاً إرجاعُ عدمِ تطورِ الحركةِ القوميةِ الكرديةِ إلى قلةِ الجهودِ المبذولةِ أو غيابِ الممارسةِ أو حتى الحروبِ المُخاضةِ في سبيلِها. وعلى العكس، أُسِّسَ عددٌ كبيرٌ من الحركاتِ التي خاضت العديدَ من الاشتباكاتِ لأجلها، لكنّ النجاحَ لَم يُحالِفْها.

يتعلقُ السببُ الجذريُّ الأولُ في العجزِ عن تطويرِ الحركةِ القوميةِ الكرديةِ المعاصرة، بنمطِ التكوينِ التاريخيِّ للشريحةِ الفوقيةِ الكردية. إذ هناك اعتلالٌ وانحرافٌ في طرازِ تكوينِ هذه الشريحة، منذ تَقَوُّضِ وانهيارِ الكونفدراليةِ الميدية. تُسرَدُ في كتابِ "تاريخ هيرودوت" حكايةٌ معنيةٌ بالانهيارِ على الشكلِ التالي: يقولُ آخِرُ ملوكِ الميديين أستياغ لهرباكوس الذي خانه: أيها السافل، لقد خُنتَني، وقمتَ بتدميرِ مملكتي. فليتكَ جلستَ مكاني على العرش. وما دمتَ لَم تفعلْ، فليتكَ تركتَ المُلوكيةَ في يدِ الميديّين على الأقلّ. لماذا سَلَّمتَها بسفالةٍ لخادمِنا البرسيِّ كيروس؟". إننا نجهلُ مدى صِدقِ هذه القصةِ من عدمِه. ولكنها تتحدثُ بأفضلِ صورةٍ عن تكوينِ الشريحةِ الفوقيةِ الكرديةِ المتواطئة. إذ لَطالما أَهدَت عناصرُ الشريحةِ الفوقيةِ نفوذَ السلطةِ إلى مؤسِّسي الهيمنةِ على شعوبِها، كرمى لمصالحِها الشخصيةِ أو العائليةِ البسيطة. وإلى جانبِ حالاتِ الاستثناء، فقد أثَّرَت هذه الذهنيةُ والوقفةُ إلى يومِنا الحاليّ. ويَبدو فيما يبدو أنّ للتنافسِ القبائليِّ والعائليِّ أيضاً دورُه في ذلك. فالخصائصُ العائليةُ والأنانيةُ الشخصيةُ ظلت في عقليةِ الكردايتيةِ في المرتبةِ المتقدمة طيلةَ سياقِ التاريخ. وهكذا كان شأنُهم في الإمبراطوريةِ البرسيةِ والساسانيةِ أيضاً. وبالرغمِ من مساعدةِ الظروفِ جداً في عهدِ السلطةِ الإسلاميةِ خلال العصورِ الوسطى، إلا إنهم أهدَوا نفوذَ السلطةِ إلى الأمويين والعباسيين، ثم إلى السلاجقةِ والأق قويونلو والصفويين والسلالاتِ العثمانية؛ مع أن قوتَهم كانت تُخَوِّلُهم لتشييدِ صرحِ سلطنةٍ مركزيةٍ بكلِّ سهولة. ويَعكسُ أحمدي خاني الحنينَ إلى ذلك في أبياتِه الشعريةِ بحزنٍ وأسى. بل حتى إنّ السلطانَ العثمانيَّ ياووز سليم، أَوصى إدريس البدليسيَّ أنْ ينتخبوا فيما بينهم أميرَ الأمراء. لكنهم يقولون أنّ الأمراءَ الكردَ الثمانيةَ والعشرين عجزوا عن الاتفاقِ فيما بينهم، فيطلبون من ياووز سليم أنْ يُعَيِّنَ بذاتِ نفسِه أميرَ الأمراء. أما الضربةُ الاستراتيجيةُ القاضيةُ التي طالت بدرخان بيك في القرنِ التاسع عشر، فقد ألحَقَها به ابنُ أخيه يزدان شير. وهي القصةُ عينُها التي عاشتها العديدُ من الحركاتِ الأخرى المماثلة. وهي نفسُ القصةِ التي جرى عيشُها عشراتِ المراتِ في حدثِ PKK الأخيرِ أيضاً. حيث يسري دورُ الواقعِ ذاتِه في كافةِ حركاتِ التصفية.

وتأسيساً على السببِ الأول، يتعلقُ الدافعُ الجذريُّ الثاني برؤيةِ عناصرِ الشريحةِ الفوقيةِ إلى العالم، وبكَنَهِ برنامجِها ونمطِ تنظيمِها. إذ اجتُثت فكرةُ الاستقلالِ والحريةِ من عقليتِهم من الجذور. لذا، فهم يفهمون العالَم انطلاقاً من زاويةِ التبعيةِ الصارمة. فكأنّ الاستقلالَ والحريةَ عدوٌّ لدودٌ لهم. الأمرُ كذلك فعلاً إلى حدٍّ ما. ذلك أنهم كوَّنوا أنفسَهم بناءً على خيانةِ الثقافةِ التاريخيةِ – الاجتماعيةِ التي ينتمون إليها، وعدمِ إجلالِ الحياةِ الحرةِ في تلك الثقافة، بل وبالنظرِ إلى العيشِ في أحضانِ الثقافاتِ الغريبةِ على أنه أنسَبُ لمصالحِهم.

وارتباطاً بالسببَين الأول والثاني، يتعلقُ الدافعُ الجذريُّ الثالثُ ببقاءِ الشريحةِ السفليةِ ضمن صِيَغٍ قَبَلِيّةٍ وعائليةٍ ازدادت تراجُعاً وتخلفاً، وبغرقِها لدرجةٍ كبيرةٍ في القضايا والمشاكلِ الشخصيةِ والعائلية، وفي النزاعاتِ المترتبةِ عليها. أما الشرف، فهو بالنسبةِ إلى كرديٍّ بسيطٍ اعتياديّ، لا يتخطى إطارَ حمايةِ منافعِه الأنانيةِ ومصالحِه العائلية. هكذا هو مفهومُ الشرفِ الذي لَقَّنَه إياه الكبار. لذا، لا يخطرُ ببالِه أبداً ربطُ شرفِه وشرفِ عائلتِه بشرفِ وأخلاقِ المجتمع (الشرف = نوموس Nomos = القاعدة الاجتماعية = الأخلاق)، ولا يكتسبُ سلوكياتٍ أو مبادئ أخلاقية.

  1. e) رَكَنَت الحركةُ الكرديةُ إلى صمتٍ قاتل، مع تصفيةِ جمهوريةِ مهاباد بعد الحربِ العالميةِ الثانية. فالهزيمةُ الشنعاء التي تكبَّدَتها الحركاتُ التي تُعَبِّرُ عن نفسِها من خلالِ قياداتِ البيكويةِ ثم المشيخةِ ثم القومويةِ البدائيةِ بالتتالي، قد أفسحَت المجالَ أمام سيادةِ صمتِ القبور ذاك. فتبدّى عهدٌ من اليأسِ والسوداوية. أما "الحزبُ الديمقراطيُّ الكردستانيّ KDP" المُعلَنُ عنه في 1945، فجَهدَ إلى تعريفِ نفسِه حزباً عصريّاً. لكنه، بطبيعةِ الحال، كان مُحَمَّلاً بالآثارِ الثقيلةِ للماضي القريب. وكانت أرضيةُ الطبقةِ البورجوازيةِ فيه ضعيفة. أما مثقفوه، فكانوا قلةً قليلة. بينما اليأسُ النابعُ من الهزائمِ المتكررة، كان يفضي إلى اقترابِهم المتحفظِ للغاية إزاء أيةِ مبادراتٍ جديدة. لقد كانوا متخلفين جداً عن مواكَبةِ الأمثلةِ الشبيهةِ السائدةِ في أرجاءِ العالم. بل كانوا متخلفين حتى عن الحِراكِ والتنويرِ الكرديِّ الذي كان سائداً في عهدِ المشروطيةِ الثانية. وهذا مؤشرٌ واضحٌ على مدى تأثيرِ حملاتِ التصفية. كانت صورةُ القيادةِ المرحليةِ تتجسدُ في شخصِ مصطفى البارزاني. وبعد أداءِ دورِه في مهاباد (كان قيادياً عسكرياً فيها)، نجحَ في الوصولِ إلى الاتحادِ السوفييتيِّ بعدَ مسيرةٍ من المغامراتِ الشيقة. لكنّ الثورةَ العراقيةَ في 1958 فتحَت طريقَ التحولِ المفصليِّ أمامه. إذ تجلّت أمامه فرصةُ حلٍّ سِلميٍّ وغيرِ دمويّ. إلا إنّ عدمَ قيامِ الأطرافِ المعنيةِ بتلبيةِ آمالِ بعضِها بعضاً، مهَّدَ السبيلَ أمام انفجارِ سياقٍ من الاشتباكِ والعِراكِ في 1961. ورغمَ الوصولِ إلى وفاقٍ حول شبهِ الاستقلالِ في سنةِ 1964، إلا إنّ هذه الاتفاقيةَ لَم تَرَ النور. كما إنّ اتفاقيةَ 1971 كانت أوسعَ نطاقاً، لكنها – هي أيضاً – لَم تُطَبَّق. أما اتفاقُ الدولتَين العراقيةِ والإيرانيةِ في الجزائر سنةَ 1975 مقابلَ تقديمِهما تنازلاتٍ متبادَلة (وهو شديدُ الشبهِ باتفاقِ تركيا وإنكلترا المُبرَمِ في 1926)، فكان دليلاً على طَويِ صفحةٍ أخرى من سياقِ الحركة. بالمقابل، فقيادةُ إبراهيم أحمد وجلال الطالباني اللذَين شرعا بمعارَضةِ قيادةِ مصطفى البارزاني بسببِ اتفاقِ 1964، أتاحَت المجالَ أمام انطلاقةٍ جديدةٍ مركزُها مدينةُ السليمانية التقليدية. ومع تأسيسِ "الاتحاد الوطنيّ الكردستانيّ YNK"، دارت مساعي تأسيسِ حركةٍ عصريةٍ أكثر. إلا إنّ هذه الحركةَ ذات الطابعِ اليساريِّ الراديكاليِّ والليبراليّ، بأرضيتِها الجغرافيةِ وبنيتِها الثقافية، لَم تَكُنْ على مستوى تغطيةِ هدفِها في تمثيلِ كردستان برمتِها. بالتالي، كانت تحملُ بين ثناياها مخاطرَ البقاءِ حركةً متطرفة، مثلما كان الأمرُ عليه ماضياً.

بدأَت امتداداتُ KDP أولاً، ثم البدائلُ اليساريةُ تتنامى في الأجزاءِ الأخرى من كردستان أيضاً. عَكسَت امتداداتُ KDP التي في كردستانِ تركيا نفسَها في 1959 باسمِ "قضية الـ49" ، ثم عَرَّفَت نفسَها باسمِ KDP– تركيا في عامِ 1965. لكنها كانت دخلَت تحت رقابةِ الكونتر كريلا التركيّ وهي لا تزالُ تخطو أولى خطواتِها واهنةً سقيمة. ومع قتلِ فائق بوجاق، أول رئيسٍ لـKDP– تركيا، بعدَ تهيئةِ جوٍّ وكأنه قُتِلَ في صراعٍ داخليٍّ للقبيلة؛ باتت قبيلتُه التي ينتمي إليها، أي قبيلةُ بوجاق في منطقةِ سيفرك، بيدقاً هاماً للكونتر كريلا. أما امتداداتُ اليسارِ التركيِّ في كردستان، فكانت في منأى عن أداءِ دورٍ أبعدَ من حملِ أمراضِ الأمةِ الحاكمةِ المُسَمّاةِ بالشوفينيةِ الاجتماعية. في حين كان وجودُ الكرد وكردستان حديثَ الساعةِ المحوريّ. كانت المساعي تتركزُ حول تحطيمِ المُحَرَّماتِ التي في هذه المصطلحاتِ أولاً. بينما لَم يَجرِ الحديثُ عن صياغةِ برنامجٍ ونمطِ تنظيمٍ واقعيَّين. بالتالي، لَم تتعدَّ القضيةُ الكرديةُ الإطارَ الشعاراتيّ. أما الأنشطةُ السوسيولوجيةُ المُجراة، فكانت أمثلةً فظةً على الوضعية Pozitivizm. هذا وكانت "المراكز الثقافية لثوار الشرق DDKO"  التي أُسِّسَت في 1969، عاجزةً عن تجاوُزِ مستوى "جمعية التعالي والترقي الكردية"  القائمةِ في فترةِ المشروطيةِ الثانية. لقد كانتا على مسافاتٍ شاسعةٍ من التحولِ إلى حركةٍ قوميةٍ معاصرة، رغمَ تلاشي حالةِ صمتِ القبورِ بعدَ عامِ 1940. أما PKK الذي كانت أرضيتُه قد رُصِفَت في هذه الأثناء، فكان منهمكاً في البحثِ عن واقعِه وحقيقتِه.

ظهرَ KDP كتجربةٍ جديدةٍ في كردستانِ إيران، التي لاذت إلى الصمتِ السحيقِ عينِه بعدَ جمهوريةِ مهاباد. كان KDP– إيران يرتقي إلى مستوى التحولِ لحزبٍ عصريٍّ برئاسةِ المثقفِ عبد الرحمن قاسملو . وكانت قد أُتيحَت له فرصةُ النجاحِ مع اندلاعِ الثورةِ الإيرانيةِ في 1979، لكنه عجزَ عن استغلالِها. ثم غدت الحركةُ مهاجرةً منفية، بعدما قُتِلَ زعيمُها عبد الرحمن قاسملو ثم زعيمُها الآخر صادق شرف كندي  بمؤامرةٍ من إيران. أما المجموعاتُ اليساريةُ وتنظيماتُ الكوماله  المتأسسةُ في السبعينيات، فلَم تتمكنْ من بسطِ تأثيرِها كثيراً.

استمرت الأنشطةُ الأدبيةُ المتناميةُ في كردستانِ سورية بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ أيضاً. وترعرعَ بين أحضانِها شاعرٌ مثل جكر خوين . فتمَّت أنشطةٌ شبيهةٌ بما قامَ به عثمان صبري، سعياً إلى المواظبةِ على تقاليدِ البدرخانيين. كان لـKDP امتدادُه في سوريا أيضاً حينذاك. إلى جانبِ النفوذِ الملحوظِ للغاية، الذي كانت تتمتعُ به تشكيلاتُ الحزبِ الشيوعيّ . إذ كان للأحزابِ الشيوعيةِ التقليديةِ امتداداتُها في كافةِ أجزاءِ كردستان على غِرارِ KDP. ولكن، ما كان لجميعِها أنْ تحظى بالنجاحِ الموفق، نظراً لعدمِ استنادِها إلى الهويةِ الذاتية، ولقصورِها في تحليلِ الطبيعةِ الاجتماعيةِ الكردستانية. وزِدْ على ذلك أنها كانت عموماً مُصابةً بأمراضِ الاشتراكيةِ المشيدة.

خلاصةً؛ كانت الحركاتُ الكرديةُ في مرحلةٍ انتقاليةٍ بعد الحربِ العالميةِ الثانية. فالقيادةُ التقليديةُ للشريحةِ العليا كانت مُنِيَت بالهزيمةِ وسُوِّيَ أمرُها، فانتهَت مُخَلِّفةً وراءَها لوحةً سوداويةً حالكة. لذا، كان جوٌّ ثقيلٌ وسحيقٌ من انعدامِ الثقةِ يحُفُّ الكردَ فيما يتعلقُ بوجودِهم وطموحِهم في الحياةِ الحرة. ويَلوحُ فيما يَلوحُ أنه ربما لأولِ مرةٍ في تاريخِهم يصبحُ انعدامُ الثقةِ وغيابُ الإيمانِ بالذاتِ سيدَ الموقف. كانت قد تبَدَّت مخاوفٌ وقلقٌ من التحولِ إلى ضربٍ من ضروبِ ظاهرةِ الهنودِ الحمر. إذ كانت هذه الظاهرةُ تعكسُ ذاتَها بين صفوفِ الكردِ الظاظائيين والعَلَوِيّين بالأكثر. فالكردايتيةُ بمعناها العصريِّ كانت قضَت نحبَها حتى قبل ولادتِها. أو بالأصح، ما تحققَ متجسداً في صفوفِ الشريحةِ العليا، هو "ولادةٌ ميتة". أما الطبقاتُ العصريةُ والشخصياتُ المتنورةُ الأصلُ التي كان يتعينُ عليها أنْ تتبنى هويتَها القوميةَ والاجتماعية، فلَم يَكُ لها حضورٌ بارزٌ أو ملفتٌ على المسرح. كانت سياساتُ الصهرِ المُطَبَّقةُ بصرامةٍ قد أعطَت ثمارَها. إذ ما كان قائماً هو هروبُ مَن يَدّعون أنهم متنورون، وفرارُهم من الكردايتيةِ كمَن يفرُّ مِن الوباء. وكان الهمُّ الشاغلُ للشعبِ هو القدرةُ على تأمينِ سيرورةِ وجودِهم الجسديّ. أما التبَرجُزُ البارزُ إلى الوسط، فكان تحوُّلاً طبقياً يدلُّ على التذبذبِ والتراوُحِ الذي يُخَلِّفُ اليهودَ وراءَه بأضعافٍ مضاعفة. ونظراً لكسبِهم المالَ كلما هربوا من الكردايتية، فقد كانوا يحيَون الفعلَ المنعكسَ المشروطَ بذلك، كما الأمرُ لدى كلبُ بافلوف. وفيما يخصُّ كردستان والمجتمعَ الكرديَّ خلال السبعينيات، فكانا بلداً ومجتمعاً لأناسٍ لَم يَعُدْ لهم هدفٌ يعنيهم، أو باتت أماراتُ وعلاماتُ الإيمانِ لديهم هشةً ومتزعزعة. أما الافتراءُ الذي مفادُه "الكرديُّ المُذَنَّب"، فكان قد لَقِيَ آذاناً صاغية. وفي هذه الحال، كان الجميعُ يخرجُ من جِلدِه ويتنكرُ لكردايتيتِه، بغيةَ إقناعِ نفسِه أنه بلا ذَنَب؛ أو كان لا يتمالكُ نفسَه من التطلُّعِ إلى ورائِه بين الفينةِ والأخرى وهو يَقولُ خَجِلاً أنْ لا ذَيلَ له.

أنا أيضاً كنتُ أعيشُ هذا الواقعَ في شخصيتي. حيث كنتُ سأتخلى عن الكردايتيةِ والكردستانياتيةِ منذ زمنٍ بعيد، لو أني كنتُ وجدتُ مَنفَذاً. لكن، وبعدَ التعرفِ على الوعيِ العصريّ، كان الواقعُ يتوجهُ نحوي باندفاع، وينهارُ عليَّ بكلِّ وطأتِه كالكابوسِ المرعب. كانت أنوارُ الحداثةِ تجذبني. لكنّ عجزي عن الانقطاعِ التامِّ عن الأراضي التي لا اسم لها، أو تلك المهجورة منذ زمنٍ غابر؛ وكذلك عن شعبي الذي كان باعثَ خجلٍ لي كلما ذُكِرَ اسمُه؛ كان يجعلني أُديرُ وجهي عن تلك الأنوار. كان نموذجُ الحداثةِ التركيةِ يستلزمُ التخليَ بالمعنى المطلقِ عن الكردايتيةِ والكردستانياتية. فعندما كانت تَعرضُ نفسَها أحياناً كأنثى جميلةٍ بهية، كانت تتطلبُ إنكارَ الذاتِ بكلِّ تأكيد، للتمكنِ من العيشِ معها. بل حتى إنّ الرجلَ الذي كنتَ تطمحُ في صداقتِه ورفاقيتِه، كان يفرضُ عليكَ الأمرَ عينَه. فنبذةٌ زهيدةٌ من كينونةِ الذاتِ كانت تعني الانعزالَ والوحدةَ المطلقة. كنتُ على الصراطِ المستقيمِ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. فلَم يَبقَ لديَّ أملٌ في الجنة، ولا ذُعرٌ من جهنم. كنتُ أَتجولُ هائماً على رأسي كما "مجنون" . إذ كانت الكردايتيةُ اختُزِلَت مقابل الحياةِ العصريةِ إلى مستوى الأغلالِ المُكَبِّلةِ تماماً للقَدَم.

كانت الحركةُ القوميةُ البورجوازيةُ مضطرةً إلى إطلاقِ الصفةِ التركيةِ على الطبقةِ التي وَجَبَ عليها تشكيلُها منذ بدءِ ولادتِها. أي أنّ موقعَ المثقفِ كان على علاقةٍ كثيبةٍ بإنكارِ الكردايتية. وبمعنى آخر، فالمثقفُ كان ذاك اللاكرديّ. كانت أعوامُ السبعينياتِ تستلزمُ الإقرارَ بما يلزمُ لتحديدِ مسارِ الكردِ وكردستان في كيفيةِ مُواكبةِ العصر. لا زلتُ أتذكرُ حالةَ الإغشاءِ التي أَلَمّت بي، عندما نقشتُ مصطلحَ "كردستان مستعمَرة" في فكري وقلبي لأولِ مرة. وعندما رأى الإنسانُ العظيم حقي قرار الذي كان زميلي في المَسكَنِ حالتي هذه، لَم يتوانَ بتاتاً عن الحِراكِ كقائدٍ حقيقيٍّ للكيانِ الجديدِ إلى حينِ بلوغِه مرتبةَ الشهادة، بالرغمِ من أنه لَم يَكُن كردياً. لقد كان رمزاً للرفاقيةِ الحقة. إنّ حالةَ الرُّشَيمِ للحركاتِ عامرةٌ بالمشقاتِ أكثر مما هي عليه أثناء ترسُّخِها في الرَّحِم. إذ لحالاتِ الرشيمِ البيولوجيِّ قوانينُه المُحَدَّدةُ  من قِبَلِ الغرائزِ الجنسيةِ الفطرية. وتَسري قاعدةُ التلقائيةِ والعفويةِ فيها. بمعنى آخر، ولَئِنْ كانت الحركاتُ الاجتماعيةُ من النوعِ المُخَوَّلِ لتَركِ أثَرِه على الحياةِ الاجتماعية، فإنها تنتظرُ الدخولَ إلى الرَّحمِ مدةً زمنيةً طويلة، وفي ظلِّ ظروفٍ مكانيةٍ عصيبةٍ للغاية. وما مشهدُ صعودِ الجبلِ أو الانزواءِ في الكهف في تقاليدِ النبوة، سوى تجسيدٌ كاملٌ لمشهدِ ترسُّخِ الأنبياءِ داخل الرحمِ الأمِّ للحركةِ الاجتماعيةِ التي سيشقون طريقَهم عليها. وأولُ لقاءٍ لسيدِنا محمد مع المَلاكِ جبرائيل الذي نزلَ عليه بالوحيِ قائلاً "إقرأ!"، وحالةُ الإغماءِ التي أَلَمَّت به، وحالاتُ الارتعاشِ التي تَمَلَّكَته بعدَ ذلك؛ كلُّ هذا تعبيرٌ عن تلك اللحظةِ المقدسة.

إنّ الاعتمادَ على أيةِ قوةٍ متأسسةٍ كانت، لايعني ولادةً جديدة. ولن يفيدَ سوى في تكرارِ دوامةِ الحياةِ وفق قواعدِ تلك القوةِ وأحكامِها. هذا وتَسري هذه الأمورُ عينُها على التبعيةِ الدوغمائيةِ للقوى العقائديةِ أيضاً. بل حتى إنّ شقَّ الطريقِ على دربِ الفكرِ العلميِّ يُسفِرُ حينها عن التحولِ إلى خَطيبٍ مُقْنِعٍ كأقصى حد، بدلاً من التحولِ إلى حركةٍ اجتماعيةٍ جديدة. كذا، فالإقرارُ بالتحولِ إلى حركةِ حريةٍ جذريةٍ للكردِ خلال ظروفِ السبعينيات، كان أَشبَهَ بتحوُّلِ فرخِ الدجاجِ إلى فرخِ صقرٍ ينشأُ ويترعرعُ في أجواءٍ مليئةٍ بأعداءِ الصقور، ويحاولُ التحليقَ يائساً. فالظروفُ تقتضي تحليقاً صقرياً يفرضُ عليك الطيران دائماً في العلالي. لقد اضطررتُ وأنا أكتبُ هذه السطورَ إلى استذكارِ تشخيصٍ قاله مظلوم دوغان، أحدُ شهدائِنا العِظامِ عني. إذ سمعتُ أنه قال: "مسيرةُ الرفيقِ تُشبهُ تحليقَ الصقر. بل إنه يحلقُ دائماً في العلالي".