يتميزُ إنشاءُ الأمةِ الديمقراطيةِ لدى PKK بالأولويةِ على إنشاءِ الاشتراكية، ويمهِّدُ السبيلَ إليها...
عبد الله أوجلان
أكانت الشخصياتُ الحكيمة، الرهبان، الأطرافُ السياسية، والمذاهبُ الدينيةُ في مجتمعاتِ العصورِ القديمةِ تلعبُ دورَ الأحزابِ المعاصرة. كما كانت السلالاتُ المتحاربةُ ميدانياً، والفروعُ العسكريةُ ورجالاتُ العلمِ في الطبقةِ البيروقراطيةِ المتنازعةُ تأخذُ عدداً كبيراً من الحلفاءِ في مصافِّها، في سعيٍ منها لإحرازِ التفوقِ وبسطِ نفوذِها. وتزامناً مع ولادةِ القضايا الاجتماعية، تظهرُ أيضاً الأحزابُ المتميزةِ بمختلفِ مقترحاتِ وسُبُلِ الحلّ. وعلنيةً كانت أم سرية، لَطالما تواجدَت الأحزابُ على مرِّ العصور. فاللجوءُ إلى قوةِ الحزبِ والاستغاثةُ بها هي السبيلُ المنطقيُّ الأفضل، في حالِ عدمِ كفايةِ القوةِ الشخصيةِ للتدخلِ في أيةِ قضيةٍ اجتماعية، أو التصدي لأيةِ إدارةٍ داخليةٍ أو خارجية. فلكلٍّ مواجَهةٍ حزبُها. حتى الأديانُ والمذاهبُ التي تشتملُ عليها والطرائقُ الدينيةُ تلعبُ دورَ الحزبِ في انطلاقتِها. وكلُّ واحدٍ منها في نهايةِ المآلِ حزبٌ قائمٌ بذاتِه، أياً كانت الهويةُ التي يُسمّي بها نفسَه أيديولوجياً وسياسياً وأخلاقياً. وفي عهدِ الحداثة، اتَّخَذَت هذه التقاليدُ التاريخيةُ أشكالاً جديدة، متحولةً بذلك خطوةً تلو أخرى إلى الأحزابِ المعروفةِ بمعناها الراهن.
تؤدي الأحزابُ أدواراً هامةً من قبيل: إبرازِ الشرائحِ الاجتماعيةِ التي تعتمدُ عليها أو تهدفُ إليها، وتمثيلِها، واستبيانِ أحقيتِها، وإعادةِ صقلِ معالمِها مجدَّداً حسبَ المعاييرِ العصرية. كلُّ هذه المبرراتِ تبرهنُ مدى استحالةِ التخلي بسهولةٍ عن دورِ الحقيقةِ الحزبيةِ داخل المجتمعات. والدفاعُ عن عدمِ جدوى الأحزابِ ليس بالأمرِ اليسيرِ من أجلِ مجتمعٍ يطمحُ إلى الرقيِّ بذاتِه وصونِ نفسِه. لكنّ هذه الأوضاعَ لا تفيدُ بانعدامِ الضرورةِ القاطعةِ إلى الأحزاب. فكلما تطورَ مجتمعٌ ما، وتقاسمَ شؤونَه مع كافةِ أعضائِه ومنسوبيه؛ كلما خسرَ التحزبُ أو المُحازبةُ معناه وجدواه. كما ولا يشعرُ مجتمعٌ ما بالحاجةِ إلى المُحازبة، عندما يَكُونُ في مستوى كلاناتٍ بدائيةٍ أو يعيشُ على شكلِ أنسابٍ قَبَلِيّة. فجميعُ الكلاناتِ أو القبائلِ هي في الواقعِ بمنزلةِ أحزاب. ونشوءُ الأحزابِ دليلٌ على وجودِ طبقاتٍ ومصالح مضادةٍ لها ضمن المجتمع. بالتالي، تفقدُ التحزباتُ المختلفةُ معناها، كلما زالَت الفوارقُ الطبقيةُ وتقاطعَت المصالح. وأحياناً تُؤَسَّسُ عدةُ أحزابٍ لأداءِ نفسِ الوظيفةِ الاجتماعية. لكنّ أمثالَ تلك الأحزابِ أيضاً لن تنقذَ نفسَها من الزوالِ والفناء، في وجهِ حزبٍ أثبَتَ جدارتَه من حيث الثباتِ والقيامِ بدورِه المأمول. كلُّ السرودِ الآنفةِ تسردُ للعَيانِ أسبابَ استحالةِ تخلينا عن الأحزابِ الاجتماعية. بل وحتى إنّ امتلاكَ كينونةِ الدولةِ أيضاً لن يكفيَ تماماً لتغطيةِ الحاجةِ إلى التحزب.
يتأتى استقبالُ PKK بحفاوةٍ واهتمامٍ عظيمٍ منذ أيامِ ولادتِه، من ملئِه فراغاً كبيراً في المجتمعِ الكرديّ، ومن تلبيتِه حاجةً حياتيةً ضمنه. وكلما أَثبَتَ PKK ثباتَه ومبدئيتَه في القولِ والعمل، تضاعفَ الإقبالُ عليه والقبولُ به داخلَ المجتمع. وحفاظُه على اعتبارِه والشعورِ بعدمِ الاستغناءِ عنه ضمن المجتمع، رغمَ كلِّ نواقصِه، بل ورغم الأضرارِ التي تسبَّبَ بها؛ إنما ينبعُ من تلبيتِه حاجةً تاريخيةً واجتماعيةً ملحوظة، وقيامِه بدورٍ كهذا. كما إنّ مقدرةَ PKK على أداءِ دورِه في المرحلةِ الجديدةِ أيضاً، مرتبطٌ بإعطائِه الجوابَ اللازمَ للاحتياجاتِ التاريخية، ومن تأديتِه مهامّه الراهنةً بمنوالٍ سليمٍ وصائب. فالاعترافُ بالهويةِ الكردية، وبروزُ إرادةِ الحياةِ الحرة، لا يعني بلوغَ القضيةِ الاجتماعيةِ حلَّها النهائيّ؛ بل يشيرُ إلى قطعِ أشواطٍ هامةٍ على هذا الدرب، لا غير. وتلبيةُ حاجاتِ الهويةِ والحريةِ بضماناتٍ قويمة، وتأمينُ سيرورتِها؛ إنما يحتلُّ مرتبةَ الصدارةِ في لائحةِ القضايا العالقةِ التي تنتظرُ الحلّ. ذلك أنّ الهويةَ الكرديةَ وطموحاتِ الحياةِ الحرةِ المفتقرةَ لأيةِ ضماناتٍ قانونيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ ودفاعية، قد تُقمَعُ وتُسحَقُ أو تُعَرَّضُ للمجازرِ على يدِ أعدائِها في كلِّ لحظة. ولهذه الأسبابِ تحديداً، يتعينُ على PKK أداءُ دورِه الإيجابيِّ أساساً من الآن فصاعداً. لقد تطلعَ PKK حتى الآن إلى النجاحِ في المهامِّ السلبية، أي مهامِّ إعاقةِ السلبياتِ وسدِّ الطريقِ عليها. وعليه من الآن فصاعداً إنجاحُ مهامِّه في الإنشاءِ الذي يطغى عليه الجانبُ الإيجابيّ. ولن يتمكنَ PKK من إنجاحِ تلك المهامِّ التي يكمنُ في خلفيتِها إنشاءُ الأمةِ الديمقراطية، إلا بنيلِ هويتِها التي يُعمَلُ على شرحِها، وإضفاءِ المعاني المأمولةِ على تلك الهوية. ومثلُ هذه المهامِّ لن يَكُونَ بالمقدورِ إنجاحُها بأيةِ روحٍ PKKويةٍ أخرى.
يتميزُ إنشاءُ الأمةِ الديمقراطيةِ بالأولويةِ على إنشاءِ الاشتراكية، ويمهِّدُ السبيلَ إليها. وبينما يتطلبُ هذا الإنشاءُ إنجازَ الثورةِ في علمِ الاجتماع، فهو متعلقٌ أيضاً بإنجازِ المهامِّ الأخلاقيةِ والسياسيةِ معاً. وبالرغمِ من كلِّ محاصَراتِ الحداثةِ الرأسمالية، إلا إنّ ريادةَ PKK ستُوَفَّقُ بقدرِ ما تتبنى دورَها ضمن هذا الإطار. والحالُ هذه، فتدريبُ الكوادرِ لأنفسِهم، وتصييرُهم فلسفةَ الحياةِ الحرةِ نمطاً لحياتِهم شرطٌ لا بدّ منه. وبالتحصنِ – فقط وفقط – بهويتِه الأيديولوجيةِ والسياسية، سيستطيعُ الحزبُ حمايةَ نفسِه، والتحلي بالقدرةِ على إطلاقِ الحملةِ والالتحامِ بالمجتمع، في وجهِ شتى الهجماتِ التي تستهدفُه، سواء من الداخلِ أم من الطرفِ المضادّ. وإلى جانبِ التسلُّحِ بالتعبئةِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ التامة، يتوجبُ على الكوادرِ الاتصافُ بالقدرةِ على بسطِ الالتزامِ بأخلاقِ الحياةِ الحرةِ خاصةً، وتحت كلِّ الظروف. أي أنه يتعينُ عليها تحديثُ وتوطيدُ مقدرتِها في التحولِ إلى الفردِ المُشبَعِ الذي يسمى في الثقافةِ الشرقِ أوسطيةِ بـ"الإنسان الكامل". كما وينبغي عليه عرضُ استطاعتِه في إفشالِ كافةِ أنماطِ الحياةِ وشلِّ تأثيرِ الأيديولوجياتِ السلطويةِ والقومويةِ والجنسويةِ والدينويةِ والليبراليةِ الباعثةِ على التقزُّمِ والتشرذمِ والمتسببةِ بالابتعادِ عن الحقيقة. بمعنى آخر، فالحاجةُ إلى الأناسِ الكاملين، والتي طالما شُعِرَ بها على مدار العصور، إنما هي ضرورةٌ ماسةٌ في يومِنا الراهنِ بالأكثر، وغيرُ ممكنةٍ إلا بالتحولِ إلى كوادر اشتركيةٍ متحضرة. وليس بالمقدورِ الشروعُ في سياقِ إنشاءِ الحياةِ الوطنيةِ الديمقراطية، إلا تأسيساً على وجودِ أمثالِ هؤلاء الكوادر. وعلى كلِّ كادرٍ أنْ يحوِّلَ نفسَه إلى المئاتِ من تنظيماتِ الأمةِ الديمقراطيةِ لإنجاحِ مهامِّه. وإلا، فكادرٌ أو حزبٌ قابعٌ تحت تأثيرِ الأيديولوجياتِ وأنماطِ الحياةِ المذكورةِ أعلاه، لا يُمكنُ إلا أنْ يَكُونَ مصدراً للمشاكل. في حين إنّ كلَّ كمالٍ أيديولوجيٍّ وسياسيٍّ وأخلاقيٍّ وتنظيميّ، هو ضمانُ كلِّ كادرٍ طليعيٍّ في إنجازِ وظيفتِه في إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ بنجاحٍ ظافر.
يجبُ استيعابُ علاقاتِ الرفاقيةِ بصورةٍ حسنة. فهي تَعكسُ، أو يجبُ أنْ تعكسَ جوهرَ العلاقاتِ الاجتماعية. وبقدرِ ما تَعكسُ في ذاتِها المجتمعَ التاريخيّ، فهي تجسدُ المجتمعَ المستقبليَّ أيضاً بالمِثل. إنها أساساً علاقاتٌ أيديولوجية، أي علاقاتُ الحقيقةِ التي تتبدى فيها الأيديولوجيا، وتفضي إلى تَجَلّيها فيها. بمعنى آخر، فاتحادُ رفيقَين لا يدلُّ بمعناه هذا على الوحدةِ الأيديولوجيةِ فقط، بل وينبغي عيشُه كوحدةِ الحقيقةِ التي آلَت إليها الآفاقُ الأيديولوجية. ولَئِنْ كان أيُّ رفيقَين قد توصّلا فعلاً إلى سرِّ الرفاقيةِ فاتَّحدا، فينبغي النظرُ إلى ذلك على أنه تمثيلٌ وطيدٌ للحقيقة. ومُصادقةُ رفاقِ الدربِ يعني نيلَ النصيبِ من الحقيقةِ المُمَثَّلة. ومن الضرورةِ بمكانٍ عدم البحثِ هباءً عن تعريفٍ آخر للرفاقية. ومَن لا يهتمُّ بالحقيقةِ الكبرى، يجبُ ألا يسلكَ هذا "الدرب". أما اللاهثون وراء الرغباتِ الساذجةِ والغرائزِ والمصالحِ البسيطة، فلن يَكُونوا رفاقاً أبداً. ولا يُمكنُ مصاحبتُهم إطلاقاً. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ مَن لَم يتخطى أيديولوجيا علاقاتِ الزوج – الزوجة، ومَن لَم يحطِّمْ جدارَ علاقةِ الأنوثةِ – الذكورةِ الساذجة، ولَم يُحَرِّرْ عالَمَه الذهنيَّ من الأغلال؛ عليه ألا يثرثرَ عبثاً عن الرفاقية، وألا يتحمسَ هباءً لولوجِ هذه الدرب. ينبغي تَجنيبُ علاقاتِ الرفاقيةِ وإبعادُها عن شتى ضروبِ العلاقاتِ والأفكارِ والأقوالِ والممارساتِ التي تَمنعُ المرءَ من السيرِ على دربِ الحقيقةِ ومن بلوغِ هويتِها التي تمثلها؛ من قبيل: المال، الأملاك، المُلكية، علاقات الزيجة، الولع بالبضائعِ الاستهلاكية، الاندفاع خلف النفْسِ والهوى، الاهتمام بالسلطةِ والمنصب، أو الإصابة بالجسارةِ العمياء أو الجُبنِ المُشين أو ما شابه. كما عليها التصدي بنجاحٍ حاسمٍ لهكذا مخاطر، والتسلحُ في نفسِ الوقتِ بالتعبئةِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ والأخلاقيةِ والتنظيميةِ المؤَهَّلةِ لتجسيدِ الحقائقِ الكبرى قولاً وعملاً، أياً كانت الظروفُ والشروط. والحزبُ الذي يجري تصوُّرُه موحَّداً ومتراصّاً، لن يتحققَ إلا بتأطيرِه بعلاقاتِ رفاقيةٍ من هذا القبيل. وحينها فقط يُمكنُه تمثيلُ المجتمعِ التاريخيِّ ومستقبلِه وإرادتِه. وليس بمستطاعِ PKK أيضاً أنْ يؤديَ دورَه التاريخيَّ والاجتماعيّ، إلا من خلالِ علاقاتِ رفاقيةٍ بهذه المقاييس.
يواجِهُ PKK قضيتَين عملاقتَين تنتصبان أمامَه ميدانياً ومرحلياً. إننا نتحدثُ عن قضيتَي السِّلمِ والحربِ المترابطتَين ببعضِهما بعضاً بعُرى دياليكتيكيةٍ وثيقة. والاعترافُ بحقِّ التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطية، هو أدنى مستوياتِ صياغةِ الحلّ، والأقرب مسافةً إلى الحلِّ السلميِّ في القضيةِ الكردية. لكنّ القوى المُصِرَّةَ على إبقاءِ وضعِ التطهيرِ العرقيِّ مُسَلَّطاً على الكردِ وكردستان، لا تودُّ الاقترابَ حتى من معادلةِ الحلِّ الديمقراطيِّ السلميِّ المُؤَطَّرِ بوحدةِ وتكامُلِ الدولةِ القومية؛ بل تلحُّ على التشبثِ بحقِّها وقوتِها في ممارسةِ الإنكارِ والإبادة. كما إنّ احتكاراتِ القوةِ والاستغلالِ الدولتيةَ القوميةَ التي تتقاسمُ كردستان والكردَ فيما بينها، وكذلك عملاءَها وأزلامَها من ذوي الأصولِ الكردية؛ ترغبُ في إدامةِ سياسةِ التطهيرِ العرقيِّ ثانيةً، بعد تزيينِها وتمويهِها بخدعةِ "الحقوق الفردية". وتَعتَبِرُ ذلك واحداً من حقوقِها الوطنيةِ والطبقيةِ التي لا غنى عنها. ولا يتيحُ هذا الموقفُ المجالَ أمامَ السلامِ والحلِّ الديمقراطيّ، حتى ضمن إطارِ وحدةِ الدولةِ القومية. وعندما يغيبُ السلامُ والحلُّ الديمقراطيّ، يَكُونُ ثمنُ ذلك شنَّ حربِ الإبادةِ الجماعيةِ المتكاملةِ على جميعِ الصُّعُد، وبكافةِ الأساليب، العسكريةِ منها والسياسيةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ والاقتصاديةِ والدبلوماسيةِ والنفسية. وبالأصل، فما يُطَبَّقُ على أرضِ الواقع، هو تسليطُ حربِ التطهيرِ العرقيِّ على الكرد، بحيث كان القِسمُ الأكبرُ منها سرّياً ومستوراً. ذلك أنّ الحربَ المُسَيَّرةَ بنحوٍ أغلبُه أحاديُّ الجانبِ منذ أكثر من مائةِ عامٍ بحالِه، والتي تهدفُ إلى محوِ الكردِ من صفحاتِ التاريخ، وإلى إخراجِهم من كونِهم مجتمعاً حراً؛ إنما هي حربُ إبادةٍ جماعيةٍ تكالَبَ فيها على الكردِ حلفاءٌ كُثُر.
كان بالمستطاعِ تحقيقُ سلمٍ ثمينٍ وحلٍّ ديمقراطيٍّ وطيدٍ على خلفيةِ النتائجِ المُستَخلَصةِ من الصراعِ الذي دامَ طيلةَ السنواتِ الثلاثين الأخيرة. فالاعترافُ بحقِّ التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطية، كان الحلَّ الأنجعَ والأنجحَ القابلَ للتطبيق، دون الشعورِ بالحاجةِ إلى دولتيةٍ قوميةٍ كردية، بل وحتى دون الحاجةِ لتحويلِ الدولِ القوميةِ الحاكمةِ إلى أشكالٍ من الطرازِ الفيدراليّ. بناءً على ذلك، فـ"خارطةُ الطريقِ" المؤلَّفةُ من 160 صفحة، والتي قدَّمتُها على خلفيةِ الحوارِ الجاري مع الدولة، كانت تُعَبِّرُ كفايةً عن مبادئِ الحلِّ والسلامِ المطلوبَين. لكنّ الأوليغارشيةَ السياسية (جهاز الدعاية والتحريض في الدولة) والشرائحَ الكائنةَ داخلَ الدولة، والتي تقبعُ تحت التأثيرِ القويِّ لتقاليدِ التطهيرِ العرقيّ؛ ما انفكَّت عاجزةً بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ عن البتِّ في قرارِ السلمِ والحلِّ الديمقراطيّ. فرغمَ محاولاتِ وقفِ إطلاقِ النارِ التي أعلنَها KCK مراتٍ عديدةً من طرفٍ واحد، إلا إنه لَم يَلقَ الجوابَ اللازم. بل سادَ وضعٌ أَشبَهُ بالسيرِ بين الأشواك. ولكن، جليٌّ جلاءَ النهارِ أنّ هذا الوضعَ لن يستمرَّ طويلاً. فإما سيتمُّ ولوجُ سياقِ السلمِ والحلِّ الديمقراطيِّ الراسخِ والثمينِ والمُشَرِّف، الذي يتَّفقُ فيه الطرفان على ثوابتِه ومبادئِه الأساسية؛ أو سيُعاشُ ثانيةً سياقُ حربٍ جديدةٍ ونهائية، بحيث تَكُونُ أشدَّ ضراوةً وأعلى مستوى بكثير مما مرّت عليه حربُ العقودِ الثلاثةِ المنصرمة. وعلى PKK التعمقُ والتركيزُ على كِلا السياقَين بكلِّ مناحيهما. فالسلامُ المُشَرِّفُ والحلُّ الديمقراطيُّ يقتضيان كفاءةً فكريةً وسياسيةً عظمى. وينبغي تشاطرُ كافةِ أبناءِ الشعبِ للحلِّ السلميِّ والديمقراطيِّ المأمول. حيث لا يستلزمُ فهمَه وإفهامَه فحسب، بل ويتطلبُ أيضاً أنْ يُعَبَّأَ الشعبُ بشأنِه تأسيساً على ذلك، وأنْ تُنَظَّمَ صفوفُه، ويُهَيَّأَ على صعيدِ الممارسةِ العملية. أي إنه يقتضي عقدَ آلافِ الاجتماعاتِ للتداولِ والبتِّ فيه، وتسييرَ آلافِ أشكالِ التنظيمِ والممارسةِ العملية. ذلك أنّ موضوعَ الحديثِ هو سلامٌ تاريخيّ، ونمطُ حلٍّ سياسيٍّ ديمقراطيٍّ سيَكُونُ مثالاً تقتدي به شعوبُ المنطقةِ والإنسانيةُ قاطبة.
كما إنه من اللازمِ تركيزُ التفكيرِ وقدح زناد الفكر على قضايا الحربِ التي يَلُوحُ أنّ كفتَها هي الراجحة. فتجربةُ الحربِ المُخاضةِ طيلةَ العقودِ الثلاثةِ الماضية، قد سُيِّرَت بأقلِّ درجاتِ الخبرة، بل وكانت عامرةً بالمستفزين، وعاجزةً حتى عن التحلي بأدنى مستوياتِ طرازِ الكريلا، وأقربَ بالتالي إلى طرازٍ شبهِ تمرديٍّ – شبهِ أنصاريّ. ولكن، محالٌ أنْ يَكُونَ طرازُ الحربِ المقبلةِ على هذه الشاكلة. فقبل كلِّ شيء، الشعبُ لَم يَعُدْ كما السابق، بل يُرغِمُنا على تسييرِ الحربِ على مستوى حربٍ شعبيةٍ حقيقية. وبعدَ تجربةِ حربٍ دامت ثلاثةَ عقودٍ برمتِها، فإنّ قيادةَ الحرب، أي "قوات الدفاع الشعبيّ HPG" مُكَلَّفةٌ بإعدادِ نفسِها لحربٍ ريفيةٍ – مدينيةٍ متوحدة، وبتطويرِ وتسييرِ والإشرافِ على الحربِ المُحتَمَلةِ التي سيخوضُها عشراتُ الآلاف، وستشملُ جميعَ المناطقِ في نفسِ اللحظة، ودون تمييزٍ بين ليلٍ ونهار، أو شتاءٍ وصيف، أو قريةٍ ومدينة، أو جبلٍ وسهل. هذا وعلى PKK مشاطرةُ المسؤوليةِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ والأخلاقيةِ ومسؤوليةِ البتِّ في شأنِ سياقِ الحربِ الجديدة، رغمَ خوضِها تحت لواءِ KCK. وعليه العلمُ يقيناً أنه لا يُمكنُ تكرارُ عهدِ حربِ المؤيدين والاشتباكاتِ شبهِ التمرديةِ – شبهِ الأنصارية، أو حتى الأقرب إلى طرازِ الأشقياءِ المتسكعين؛ وأنه حتى لو جرى تكرارُ ذلك، فلن تلقى قبولاً أو رواجاً. وعليه شحذُ مهاراتِه وصقلُ كفاءاتِه بناءً على ذلك. ومهما ارتقى مستوى الحربِ الجديدة، إلا إنه من الضرورةِ بمكانٍ إعطاءُ الجوابِ الوافي والشافي لجميعِ القضايا والإشكالياتِ التي ستطفو على السطح، وذلك عبر القدراتِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ والأخلاقية، ومهارةِ العزمِ الذي لا يتزعزع. هذا وتندرجُ في هذا المضمارِ أيضاً مسؤوليةُ تقييمِ ودراسةِ جميعِ الظروفِ الداخليةِ والخارجية، وتَحِمُّلِ النتائجُ التي ستفرزُها الحربُ بجميعِ أبعادِها التي تشتملُ عليها، وتحويلِها لصالحِه. أما التقصيرُ في تلبيةِ الحاجاتِ أو الاتسامِ بالكمال، فلن يَكُونَ حالةً يُرَحَّبُ بها بِسِعَةِ صدرٍ داخلَ PKK، كما كان الأمرُ سابقاً. وستَكونُ المحاسبةُ والمُساءلةُ لاذعةً أكثر من تقديمِ الحسابِ للغير. في حين لن يَكُونَ وارداً إنقاذُ النفْسِ من المسؤوليةِ بإلقائِها على عاتقِ الغير، أو التملُّصُ منها اعتماداً على الممارساتِ التصفويةِ كما كان ماضياً. فحقيقةُ الشعبِ والحزبِ القائمةُ لا تسمحُ بذلك بتاتاً. علماً أنّ عاقبةَ التصفويين والفارّين القدماء لا تزالُ محفوفةً بالغموض، ولكنها ليست مُبهِجةً كثيراً. بل إنّ مدى فجاعةِ أحوالِ المُخبِرين والمستسلمين والمتواطئين والتصفويين واضحٌ للجميع، حتى عندما تباشرُ الدولُ بمواجهةِ حقيقتِها التي كانت عليها ماضياً، وتسعى إلى تطهيرِ نفسِها من الشوائبِ العالقة.
ومن الآن فصاعداً، سيحظى كلُّ شيءٍ بمعناه، وسيَرى النورَ ويحيا تأسيساً على خلفيةِ سلامٍ مُشَرِّفٍ وحلٍّ ديمقراطيٍّ ثمين، أو ارتباطاً بحربٍ شاملةٍ حاسمة. وما بينهما سيُداسُ ويتمُّ العبورُ عليه. ذلك أنّ المراحلَ التاريخيةَ تمرُّ عامرةً بقراراتٍ وممارساتٍ تاريخية. وفيما خلا ذلك محضُ رياءٍ وأوهامٍ ستنثرُها الرياح. ومَن يُقَصِّرُ في تهيئةِ نفسِه لهكذا مراحل، أو يستعدُّ لها ويعجزُ عن تلبيةِ متطلباتِها، فرداً كان أم تنظيماً أم شعباً، دولةً كانت أم حزباً أم كائناً ما كان؛ فلن يَخلُصَ من الرميِ به في مزبلةِ التاريخ. ولن يتمكنَ PKK من أداءِ الوظيفتَين التاريخيتَين المنتصبتَين أمامَه، إلا استناداً إلى استنباطِ الدروسِ والعِبَرِ اللازمةِ من تجاربِ الماضي في معالجةِ ودراسةِ الراهنِ من كلِّ الجهات، وفي القيامِ بالاستعداداتِ الضروريةِ بأتمِّ صورة، والانطلاقِ نحو الممارسةِ العمليةِ متحصناً بنفسِ الجرأةِ والبسالة. ومن غيرِ الواقعيِّ التعويلُ على انتهاءِ المرحلةِ بانتصاراتٍ ساحقةٍ أو هزائم نكراء. بل سوف تؤولُ المرحلةُ – بكلِّ تأكيدٍ وجزم – إلى صالحِ إرساءِ سلامٍ مُشَرِّفٍ وتكريسِ حلٍّ وطنيٍّ ديمقراطيٍّ أكثر شفافيةً ووضوحاً. وما عدا ذلك تيهٌ وضياعٌ في متاهةِ الإبادةِ الجماعية. إلا إنّ وضعَ البشريةِ القائمَ حالياً، لن يسمحَ بذلك البتة.
كلُّ الظروفِ تُضفي على المستجداتِ التي يُحتَمَلُ حصولُها في المستقبلِ المنظورِ أهميةً تعادلُ ما كانت عليه الثورتان الكبرَيَتان الفرنسيةُ والروسيةُ خلال التاريخِ المعاصر. وسواءٌ تحققَت بالحربِ أم بالسلم، فإنّ الشعبَ الكرديَّ لايحلُّ القضيةَ الوطنيةَ الديمقراطيةَ العالقةَ من أجلِه وحسب، بل إنه يُنجزُ انطلاقةً سيَكُونُ لها معناها الرفيعُ من أجلِ عمومِ منطقةِ الشرقِ الأوسطِ والإنسانيةِ جمعاء. وهو بانطلاقتِه هذه لا يُضيفُ دولةً قوميةً جديدةً إلى أجهزةِ الدولِ القوميةِ التابعةِ للحداثةِ الرأسمالية، والتي تتكاثرُ يومياً. كما لا يواكبُ بها رَكْبَ ما رصَفَت الحداثةُ أرضيتَه منذ زمنٍ سحيقٍ من أجواءٍ رأسماليةٍ أو احتكاراتٍ أو عالَمٍ صناعيّ. بل إنه يتوهجُ بأشعةِ حضارةٍ جديدةٍ وحداثةٍ جديدة. وانطلاقةُ تلك الحداثةِ التي بوسعِنا تسميتُها أيضاً بالعصرانيةِ الديمقراطية، سوف تَكُونُ مُؤهَّلةً لإنارةِ دربِ الحلِّ المأمولِ واللازمِ لثقافةِ الشرقِ الأوسط، التي تمرُّ من أحرجِ مراحلِ تاريخِها وأشدِّها فوضى. وجدارةُ هذا الدورِ في الحلِّ تتجلى منذ الآن، حيث برهَنَ حضورَه في العراقِ (أوروك) على وجهِ التخصيص. هذا السياقُ المُعاش، والذي بمقدورِنا نعتُه بضربٍ من ضروبِ "الحربِ العالميةِ الثالثة"؛ إنما يصطفي PKK، ويرشحُه لأداءِ دورٍ شبيهٍ بما قامَ به الكردُ الأوائلُ على حوافِّ سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس مع بزوغِ فجرِ تاريخِ الحضارة، وللقيامِ به هذه المرة لصالحِ الحضارةِ الجديدةِ والعصرانيةِ الديمقراطية، وعلى هدى المجتمعِ الديمقراطيِّ الخالي من الطبقةِ والدولة، والمرتكزِ إلى المدينةِ الأيكولوجيةِ والاقتصادِ المُنَزَّهِ من الربح. وقد عَرَّفَ PKK نفسَه منذ البدايةِ بما يتوافقُ وهذا الدورَ التاريخيّ. والعقودُ الثلاثةُ الأخيرةُ التي مرّت مليئةً بالأعاصيرِ والزوابع، قد برهنَت مقدرتَه على تأديةِ دورِه هذا بجدارة، رغمَ نواقصِه وأخطائِه العديدة. فلَمّا ناشَد، لبّى الشعبُ الكردستانيُّ النداء. ولَم تَعُدْ كردستان منزويةً إلى صمتِ القبور. لذا، فالمرحلةُ المقبلةُ ستَكُونُ في النتيجةِ عصرَ إنشاءِ الأممِ الديمقراطية، سواء سُجِّلُ النجاحُ فيها للحربِ أم السِّلم. وعليه، فمن بين أحشاءِ ثقافةِ الحضارةِ الشرقِ أوسطية، التي صيَّرَتها الحضارةُ الطبقيةُ والمدينيةُ والدولتيةُ حمَّامَ دمٍ بألاعيبِها ومكائدِها المستمرةِ مدى آلاف السنين، والتي تعارَكَت فيها القبائلُ والأديانُ والمذاهبُ والأممُ وتصارعت؛ سوف يسطعُ عصرُ العصرانيةِ الديمقراطيةِ مرتفعاً على أرضيةِ وحدةِ وتكامُلِ الأممِ الديمقراطية.