الرفاقيةَ أثناءَ ولادةِ الأفكارِ العظيمةِ تتحلى بأهميةٍ تاريخية...
عبد الله أوجلان
إنني أقومُ بالدفاعِ في وجهِ الحداثةِ الرأسمالية. وأُفَضِّلُ التعبيرَ العلميَّ لمرافعتي بقدرِ اندماجي والتحامي مع القوالبِ العلمية. ولَطالما فعلتُ ذلك حتى الآن. لكنّ روحي كانت تئنُّ هامسةً لي على الدوامِ بأنّه ثمة أشياءٌ لا تزالُ ناقصة. وكنتُ أشعرُ أنّ نمطَ الإيضاحِ العلميِّ للحداثةِ يُكَلِّفُ دوماً التضحيةَ ببعضِ الأشياء. وكنتُ على ثقةٍ بأنه نمطٌ ضروريٌّ لإيضاحِ الحياةِ وشرحِها، ولكنه لا يَفي بذلك. وكلما ركزتُ على الموضوعِ وتعمقتُ فيه أكثر، كان يُذَكِّرُني بالسَّحَرةِ الذين فقدوا جاذبيتَهم، وبالكهنةِ السومريين والمصريين الذين خسروا وقارَهم وقدسيتَهم، فانزووا في معابدِهم يكتبون الأحجيةَ ليرسموا مصيرَ حياةِ الإنسان. أما لغةُ الحداثة، والتي بات يطغى عليها تدريجياً الطابعُ الأكاديميُّ والتخصصيُّ والرمزيّ، فبدأَت تُشبهُ لغةَ السَّحَرةِ والكهنةِ في العصورِ الأولى، والذين كانوا يُغدقون مزيداً الأملِ على الحَول. بل إنها كانت تحولت إلى نسخةٍ مشتقةٍ منها، لكنها نسخةٌ أكثرَ يأساً، مفتقرةٌ لساحريتِها الخلابة، ولا روح لها ولا حقيقة. ولَم تَكُ تفيدُ بشيءٍ في نهايةِ المآل، سوى في تسخيرِها لتدويرِ عجلاتِ النظامِ القائمِ لتسريبِ مزيدٍ من الربح. وتقييماتُ الفيلسوفِ نيتشه في هذا المضمارِ كانت أكثر لفتاً للأنباه، إذ قال: " يعبِّرُ الفنُّ عن الحياةِ بصورةٍ أفضل، وبه تُوَضَّحُ الحقيقةُ بنحوٍ أفضل".
لا زلتُ أتذكرُ جيداً أيامي التي أمضيتُها بين فكَّي مدارسِ الحداثةِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء. ولا تَبرحُ الأيامُ التي كنتُ أتخيلُ فيها صورةَ الوحشِ الذي سأقابلُه عندما وطأتُ عتبةَ المدرسةِ الابتدائية، تحافظُ على مكانِها في ذاكرتي. وكم هو مثيرٌ أنني أصبحتُ الفرخَ المحبوبَ لدى أولى الوحوشِ التي قابلتُها، أي لدى المُعَلِّمين والمدرِّسين الذين هم رُهبانٌ عصريون. حيث راحوا يعتنون بي ويدللونني، وأنا أيضاً كنتُ أجلبُ لهم البيضَ واللبَن. وعندما انسكَبَت أولى الحروفِ التركيةِ من بين الشفتَين، كنتُ قد أقنَعتُ نفسي بأني أخطو أولى خطواتي الموفقةِ صوب الروحِ والوعيِ العصريَّين. ولكن، كنتُ آنذاك أعملُ دوماً على مُواراةِ جانبٍ ما لديّ. حيث تستّرتُ دوماً على حالتي الروحيةِ التي ترتعشُ خوفاً، وعملتُ على عدمِ إظهارِها. ويَبدو فيما يَبدو أنّ الشخصيةَ الازدواجيةَ كانت تتشكلُ بهذا المنوال. أما ما مَنَحَته القريةُ والأُسرةُ لشخصيتي، فكنتُ عاجزاً عن معرفتِه، وعن إدراكِه أيضاً. حيث، ومنذ أنْ فتحتُ عيني على النور، لَم أستطعْ أنْ أكونَ ابناً صالحاً للعائلةِ والقرية. والكلُّ كان يُروِّجُ خِلسةً أنّ ابنَ عمر أو وَلدَ عويش (غالباً ما كانوا ينادونني عبداليه عويشه ) واقعةٌ ميؤوسٌ منها. كنتُ أخجلُ من هذا الوضعِ وأستاء. لكني لَم أَكُنْ أتنازلُ أبداً عن طرازي الشخصيّ. لذا، كانت تُفرَضُ عليَّ الوحدةُ رويداً رويداً. حيث كان الجميعُ يُبعِدون أطفالَهم عني. بل حتى كانوا يستاءون سِراً من ذهابِ أطفالِهم معي في جولةٍ بسيطةٍ بين أحضانِ البراري. لكن، كانت لديَّ عدةُ طُرُقٍ أجعلُ نفسي مقبولاً من خلالِها. فاستعراضاتُ اصطيادِ الطيورِ وقتلِ الأفاعي والسحالي كانت تستقطبُ الأنباهَ إليّ. أما حفظي لبضعةِ سُوَرٍ قرآنيةٍ في مرحلةِ الدراسةِ الابتدائية، ووقوفي إلى الصلاةِ مقابلَ المِنبرِ وأسفلَ مكانِ الإمامِ مباشرةً؛ فكان يُزيدُ من جذبَ الأنظارِ إليّ. علماً أنّ حُكمَ الإمامِ مسلم عليَّ بدأَت تتداولُه الألسن. فهذا الحُكمُ الذي مفادُه: "ستطيرُ إنْ استمرَّيتَ بهذه الوتيرة"، كان يُحلِّقُ بي عالياً.
كنتُ قد نوهتُ سابقاً إلى أنني قمتُ، وبالوتيرةِ نفسِها، بالإمامةِ لمجموعةِ الطلابِ التي كنتُ أتزعمُها طيلةَ الطريقِ الفاصلةِ بيننا وبين المدرسةِ الابتدائية، والتي كانت تستمرُّ ساعةً من الزمن. لكنّ الإمامةَ كانت تُعَبِّرُ عن مرحلةٍ جدِّ باكرة، وهكذا بقيَت. إذ كنتُ طامعاً في بلوغِ الحداثةِ التركية، ومُدركاً أنني لن أتخلصَ منها بهذه السهولة. هذا وكنتُ بينتُ سابقاً أيضاً أنّ ما تبَقّى لديَّ من خصالٍ باسمِ الكردايتيةِ كان سيُشكلُ حجرَ عثرةٍ أمام التحامي مع الحداثة. من هنا، ولَئِنْ ما حاولتُ تفسيرَ المعاني التي دلّت عليها حياتي اعتباراً من وطْءِ مدارسِ الحداثةِ دون أيِّ وجهِ اختلافٍ عن الرَّجلِ الآليِّ وحتى نوروزِ سنةِ 1973، حين تجرأتُ على سلوكِ أولِ تجربةٍ بتشكيلِ مجموعةٍ باسمِ الكردِ وكردستان؛ فيتعينُ عليَّ القولُ أنها كانت فراغاً عملاقاً من العَدَم. إذ كنتُ أصابُ بالعَدَميةِ إزاء الحداثةِ التركية. لكنّ هذا الوضعَ لَم يُسفرْ فقط عن شخصيةٍ معقَّدةٍ نفسياً، بل وكان لا يتيحُ المجالَ أمام خيارٍ سوى ظهور شخصيةٍ سقيمةٍ وسطحيةٍ للغاية، لا علاقةَ لها بالحياة، أو بالأحرى لا مقدرةَ لها سوى على صنعِ قوافي صعبةِ النطقِ ولا تختلفُ بشيءٍ عن الروبوتِ عندما تتطلعُ إلى إحرازِ النجاح. بمعنى آخر، فأهمُّ طرفٍ يستحقُّ التقديرَ في سنواتي هذه، ربما كان نجاحي في إبرازِ الشخصيةِ الناجحةِ الكاملة، وبالتالي المتحولةِ إلى روبوت. وبالفعل، كانت شخصيةً عصيةً على التعريف. ولا أعتقدُ البتةَ أنه من الممكنِ عملُ فيلمٍ بشأنها. ومع ذلك عليَّ التكرارُ مجدَّداً أنني – ورغمَ حالتي النفسيةِ هذه – كنتُ الطالبَ المحبذَ والأقربَ إلى أفئدةِ كلِّ النساءِ والرجالِ والمدرِّسين العسكريين والمدنيين (بدءاً من الدراسةِ الابتدائيةِ وحتى السنةِ الدراسيةِ الأخيرةِ في كليةِ العلومِ السياسية). يَلوحُ أنها مشكلةٌ يصعبُ تحليلُها وحلُّها.
لَم أتنازلْ قَيدَ أنمُلةٍ طيلةَ ذلك السياقِ عن مظهرِ الريادةِ الطبيعيةِ الخاصةِ بي. وإذ ما تساءلتُ ثانيةً: كيف كانت حالتي الروحيةُ إذن؟، فسيبقى هذا سؤالاً محفوفٌ جوابُه بالغموضِ المُبهَم. في واقعِ الأمر، ينبغي طرحُ السؤالِ التالي: أَوَكانت بقيَت لديَّ حالةٌ روحيةٌ طبيعيةٌ حقاً؟ أو بالأصح: هل كانت الحداثةُ المُقابِلةُ لي قد أَبقَت لديَّ حالةً روحيةً خاصةً بي؟ لَربما كانت أهمُّ نتيجةٍ يتوجبُ استنباطُها من هنا، هي تصرُّفي وكأنني في امتحانٍ أخوضُه إزاء الحداثةِ على مدارِ الساعة. إذ كنتُ سأُنهي جميعَ مراحلِها الدراسيةِ بتفوق، ولكني كنتُ لن أصبحَ أبداً كما تشاءُ هي. إذن، والحالُ هذه، ماذا كنتُ سأصبح؟ هذه هي القضيةُ التي كانت عالقة. أقولُ أنها عالقة، لضرورةِ معرفةِ مدى مشقةِ الانتظار، وكأنكَ عالقٌ في الهواء. لو أنني قلتُ أنّ الحياةَ مرت بهذا المنوال، فقد أكونُ بذلك سلطتُ النورَ على بعضِ خصائصِ تلك الحياة. وما من ريبٍ في إمكانيةِ النظرِ إلى تلك الحياةِ على أنها نوعٌ من المقاومةِ الخاصة، التي قلَّما نجدُ مثيلاً لها في وجهِ الحداثةِ المفروضةِ من جانبٍ واحدٍ على خلفيةِ إنكارِ الهويةِ الذاتيةِ وإبادتِها. وفي هذه النقطةِ بالذات، كثيراً ما كنتُ أقارنُ وضعي هذا بالوضعِ الذي أُسقِطَت فيه هويةُ المرأةِ على مدى تاريخِ المدنية. وكنتُ أَعقدُ أوجهَ الشبهِ بين حياتي القصيرةِ المناهِضةِ للحداثةِ من جهة، وبين مقاومةِ المرأةِ ضد المدنيةِ طيلةَ آلافِ السنين من الجهةِ الأخرى. وهكذا كنتُ أنفرُ رويداً رويداً من المواقفِ الجنسويةِ المُبداةِ إزاء المرأة، وأَعتَبِرُ تلك المواقفَ قبيحةً وشنيعة. كما وكنتُ أدركتُ باكراً جداً أنّ فنَّ الزيجةِ مُحِطٌّ جداً لشأنِ المرأة.
الأمرُ الآخَرُ البالغُ الأهمية، والذي لن أقفزَ عليه، كان تناوُلي لمصطلحِ الله. إذ كنتُ ملتزماً بالشعائرِ الدينيةِ حتى نهايةِ مرحلةِ الدراسةِ الثانوية، لدرجةِ أني كنتُ أَصُومُ وأُصَلّي. لكنّ الظنونَ التي كانت تُساورني بشأنِ وجودِ اللهِ كانت تنهشُ فيَّ لدرجةٍ كادت تَصِلُ بي حدَّ الانتحار. كنتُ أفتشُ عنه بطريقتي الخاصةِ في كلِّ مكان، بدءاً من الكونِ العملاقِ ووصولاً إلى ذَرّةِ الغُبار. لكنّ هذا البحثَ لَم يَكُ يفضي إلى نتيجةٍ سوى تجذير شكوكي أكثر فأكثر. وفي هذه الأثناء بالذات كنتُ سأبدأُ التعرفَ على دينِ اليسار، وعلى نَبِيِّه الجديدِ ماركس.
هل كنتُ يمينياً قبل التعرفِ على اليسار؟ ساطعٌ جلياً أنّ ثنائيةَ اليمينِ – اليسارِ لا تُعَبِّرُ بمنوالٍ صحيحٍ عن حقيقتي، عن حقيقتِنا. والأصحُّ كان ينبغي أنْ يَكُونَ على شاكلةِ قرينةِ الحداثة – التقاليد، أو بالأحرى الواقع الاجتماعيّ – الحداثة. فالتزعزُعُ الذي أصابَ مصطلحَ الله لَم يَكُ في مضمونِه سوى انعكاساً لِتَزعزُعِ المجتمعِ التقليديِّ تجاه المجتمعِ العصريّ، وتجسيداً له في شخصيتي. فاللهُ باعتبارِه رمزَ الهويةِ السائدةِ في المجتمعِ التقليديّ، لَم يَكُن قادراً على الصمودِ إزاء الدولةِ القوميةِ التي هي الإلهُ العلمانيُّ للمجتمعِ العصريّ. كنتُ سأحللُ هذا الأمرَ بعد ذلك بكثير. وبينما أُعَبِّرُ عن التزعزعِ والتقلبِ الروحيِّ الكبيرِ الذي مررتُ به لدى بلوغي مشارفَ سبعينياتِ القرنِ العشرين، وفي تلك الأثناءِ بالتحديدِ باشرتُ بالبحثِ عن الحلِّ في الكياناتِ اليمينيةِ أو اليسارية المتناقضةِ والمتصارعةِ فيما بينها. أتذكرُ أنني جَسَستُ النبضَ في صفوفِ اليمينِ أولاً، كوني شخصاً ملتفتاً إلى صلاتِه وتضرُّعِه. فالأيامُ التي كنتُ أَعقدُ فيها الصلاةَ في جامعِ مالتبه بأنقرة، تمتدُّ حتى سنةِ 1969. والأيامُ التي كنتُ أُرشِدُ فيها الغيرَ لَم تَكُنْ بالقليلة. بل حتى إنني حظيتُ بفرصةِ الاستماعِ شخصياً إلى "نجيب فاضل قيصاكورَك" الذي يُستَذكَرُ دوماً بلقبِ "الأستاذِ الكبير"، بحضوري خِلسةً في المؤتمرِ الذي عقدَه في مبنى "النادي التركيّ". لقد كان تَمَلَّكَني حماسٌ عارم. تَحضُرُني مجلةُ "الشرق الكبير" كسَرابٍ سَديميّ. واضحٌ وضوحَ النهارِ أنّ الربَّ المتزعزعَ كان صوتاً يمدُّ مُثُلي العُليا بالقوة. كنتُ قد قابلتُ سليمان ديميريل ورفيق كوركوت أيضاً في مبنى "جمعية مكافحة الشيوعية" . ثم عثرتُ على الكتابِ المُعَنوَنِ باسمِ "أبجدية الاشتراكية" موضوعاً تحت وسادتي بشكلٍ مجهول. فشرعتُ بقراءتِه تلقائياً. أتذكرُ أنني شعرتُ حتى قبلَ الانتهاءِ من مطالعتِه بأنه "خسرَ محمد، وفازَ ماركس". لَم يَجرِ ذلك بوعيٍ شفافٍ وواضح، بل كان مجردَ إحساس.
في نفسِ الفترةِ كان نعشُ رئيسِ القضاةِ آنذاك عمران أوكتيم يمرُّ من أمامِ مدرستنِا الداخلية "الثانوية المِهنية لهندسةِ المساحة". وهنا أيضاً خطوتُ بضعَ خطواتٍ انسياقيةٍ وخجولةٍ للمشاركةِ في مراسيمِ العزاء، من دونِ أنْ أتأثرَ بأحدٍ على الإطلاق. لَم تَكُ تلك مشاركةً واعيةً وعقائدية، بل تحققت ضمن أجواءٍ من الفضولِ والحماسِ نحو اليسار، تماماً مثلما دبَّ فيَّ الحماسُ لليمين. جليٌّ أني لَم أكُنْ متسلحاً بالوعيِ الذي يؤهِّلُني للتمييزِ بين اليمينِ واليسار. ولَم تَكُ لديَّ بحوثي القويةِ للنبشِ في هذا المضمار. بل كان البُحرانُ والأزمةُ الروحيةُ هي التي تشغلُ بالي بالأرجح. فقد صُدِمتُ بقوةٍ في مفترقِ الدينِ والفلسفة. وكنتُ سأتنَبَّهُ بعدَ ذلك بزمنٍ طويلٍ إلى أنّ التمييزَ بين المجتمعِ التقليديِّ والمجتمعِ العصريِّ هو الذي يتسترُ وراء تلك الصدمة. فلَطالما كان ثمة تركيزٌ على الدينِ في مراحلِ الدراسةِ الابتدائيةِ والإعداديةِ والثانوية. كما وكان قد تحققَت مطالعةُ كُتُبِ "سيد قطب" ، ولكنّ تأثيرَها لَم يَكُ بالدرجةِ المأمولةِ لتذليلِ الأزمةِ السائدةِ لديّ.
كان عامُ 1970 السنةَ التي أنهيتُ فيها دراستي وعُيِّنتُ موظفاً للدولةِ إلى ديار بكر. هناك تعرفتُ على الراتبِ الشهريِّ والرشاوي. أصابتني الرعشةُ عندما تلقيتُ أولَ رشوة. حيث وضعتُ في جيبي حينها ما أعتقدُ أنه يعادلُ الأربعَ آلافِ ليرةً حسبَ نُقودِ ذاك الوقت، بعدَما وَقَّعتُ على ورقةٍ لصالحِ القرويين دون وعيٍ مني، عندما كانت ناحيةُ "كايا بنار" لا تزالُ قرية (بَياس Peyas). وارتعشَ جسدي في ذاك المساء. حيث كانت مبادئي الأخلاقيةُ تعترضُ على أخذِ الرشوة. لكنني وجدتُ الحلَّ على الفور. إذ راودتني فكرةُ استثمارِ هذا المالِ من أجلِ الأهدافِ الاجتماعيةِ المستقبلية (المعنيةِ بالكردايتية)، مما بَدَّدَ حالةَ التزعزعِ الأخلاقيِّ من جهة، واعتبرتُه أمراً أخلاقياً أكثر من الجهةِ الثانية. ذلك أنّ الهدفَ الساميَ كان سيتغلبُ على الهدفِ الضيق. بناءً عليه، ازدادَ اهتمامي تدريجياً بالكردايتيةِ التي كانت أجواءُ المدينةِ تُحَفِّزُني عليها وتجرني إليها. هكذا كانت قصةُ أولِ إيداعٍ لي على دربِ الكردايتية. لقد كان هذا في ذاتِ الوقتِ حدثاً يَعكسُ كَنَهَ شخصيتي أيضاً. كنتُ مُولَعاً بالمجتمعيةِ لدرجةٍ مَرَضِيّة، منذ نعومةِ أظافري. وعلى سبيلِ المثال، وبالرغمِ من عدمِ اغتباطي، بل استيائي البليغِ من احتضانِ أمي أو أقاربي لي، إلا إنّ عقدَ أواصرِ الصداقةِ والرفاقيةِ مع أقراني من أطفالِ العوائلِ المنافسةِ لنا، كان أمراً يجذبني بدرجةٍ لا تُصَدَّق. وشهيدُنا العظيمُ "حسن بيندال" كان صديقاً من هذا النوع. هذا وكانت القاعدةُ نفسُها تَسري على الفتياتِ أيضاً. لكني كنتُ انتبهتُ إلى أنّ إمكانيةَ عقدِ العلاقةِ معهنّ محدودةٌ في هذا السياق. ومع ذلك، أتذكرُ أنني كنتُ أخرقُ المحظوراتِ مِراراً وتكراراً.
سنةُ 1971 كانت السنةَ التي سجلتُ نفسي فيها في كليةِ الحقوقِ بجامعةِ إستنبول. كان تعرُّفي على إستنبول وعملي موظفاً في حيٍّ راقٍ مثل "باقر كوي" سيغدو أمراً مؤثراً. كانت أياماً شهدَت حِراكاً ملحوظاً لكلٍّ من Dev-Genç وDDKO. كانت لي ميولي إلى كِلا الطرفَين، بل وأصبحتُ عضواً رسمياً في DDKO. هناك ذكرى لي بشأنِ إلقاءِ محاضرةٍ ما، قد توضحُ معالمَ هويتي في ذاك الوقت. حيث كنتُ قلتُ بتصرفٍ استُقبِلَ باستغرابٍ وتعجُّب، أنّ سيدَنا محمداً أيضاً قال: "يا ربي، لا تَمنحْ الكردَ فرصةَ التحولِ إلى دولة. فإذ ما صاروا دولةً فستَمتلئُ الأرضُ وتعجُّ بهم". كان الشبانُ والأعضاءُ في DDKO ينظرون إليَّ بعيونٍ يُساورُها الشكُّ والريبة. كان ذلك في جمعيةِ الشرق الثقافية. هكذا أَشعَلتُ نارَ نقاشاتٍ وسجالاتٍ دامَت أياماً عديدةً تحفُّها الظنونُ وتنهشُ فيها الشكوك، ومفادُها: "وماذا يعني قيامُ الكردِ بتأسيسِ دولة؟"، و"هل هذا وقتُ مثلِ هذه الأقوال"، و"أَوَيُمكنُ أنْ يَكُونَ هذا الشخصُ مُحَرِّضاً استفزازياً؟".
ذكرى أخرى هامةٌ لي من تلك الأيام، هي الحوارُ الذي جرى بيني وبين رئيسِ DDKO آنذاك محمد تويسوز. فشكلُ التنظيمِ من نوعِ DDKO، والآراءُ التي يدافعُ عنها لَم تَكُ تروي ظمأي أو تُقنِعُني كثيراً. وحسبَما يَبدو، فقد كنتُ أفتحُ دوماً مجالَ النقاشِ بصددِ موضوعِ الدينِ والفلسفة. لكني لَم أَكُنْ أتحلى بعدُ بالقدرةِ على تقديمِ مقترحاتٍ حول القضيةِ الكرديةِ أثناء النقاشات، نظراً لكوني مبتدئاً هاوياً بكلِّ معنى الكلمةِ حينذاك. ويَلوحُ أنني لفَتُّ انتباهَ رئيسِ المركزِ الأكثرَ خبرةً مني، لدرجةِ أنه كثيراً ما كان يأتي إلى جواري ويقولُ بنحوٍ ملفتٍ للنظر "تقدَّمْ باقتراحٍ يا آبو APO، اقتراح!" (إنه القولُ الذي لن أنساه، وسأجهدُ لتلبيةِ متطلباتِه). هو أيضاً قُتِلَ – حسب اعتقادي – على يدِ الكونتر كريلا، مع تزيينِ مشهدِ الجريمةِ بخلافاتٍ عائلية، مثلما حصلَ مع رئيسِ الحزب الديمقراطي الكردستاني KDP فائق بوجاق. كما ولا يزالُ عالقاً في ذاكرتي قولُ موسى عنتر، عندما كنا شَكَّلنا مجموعةً صغيرةً من المؤيدين، أثناء حصولِ انقلابِ 12 آذار العسكريّ. حيث كان قال لنا "لقد انشغلوا ببعضِهم بعضاً، فلننتبِهْ نحن لعملِنا، ولننظرْ في شأنِ وحدتِنا". ربما كان موقفُه قوموياً، ولكنه كان قَيِّماً. وبالأصل، فقد كانت رياحُ 12 آذار قد عصفَت.
تتعلقُ آخِرُ ذكرى لي في إستنبول باجتماعٍ عُقِدَ في قاعةِ "جامعةِ إستنبول التقنية" التي تكمنُ في حيِّ "ماشكا". كنتُ بشكلٍ من الأشكالِ في قاعةِ الاجتماعِ التي كانت تعجُّ بالحضور. كان أحدَ أهمِّ الاجتماعاتِ الحرجةِ في تاريخِ Dev-Genç. وفجأةً دخلَ إلى القاعةِ كلٌّ من ماهر جايان ويوسف كوبَلي ومنير رمضان أكتولغا (قد يَكونُ اسمُ أكتولغا خاطئاً. ربما يَكُونُ الاسمُ الصحيحُ هو سنان كاظم أوزودوغرو ). كان ماهر قائدَهم. استولى على الميكرفون بنحوٍ ثوريّ، وألقى خطاباً طالَ زمنُه. وما يخطرُ على بالي من بين حديثِه: "التحريفيةُ خطرٌ جادٌّ أحاطَ بالماركسيةِ واحتواها. ومثلما شأنُها مع كلِّ موضوعٍ آخر، فهي تتناولُ القضيةَ الكرديةَ أيضاً بمنوالٍ انتهازيّ (لأولِ مرةٍ أسمعُ اسماً صريحاً يُطلَقُ على القضية). القضيةُ الكرديةُ هي قضيةُ حقِّ الشعوبِ في تقريرِ مصيرِها. وإذ ما أرادَ الكردُ، فبمقدورِهم استخدامُ حقِّهم في بناءِ دولةٍ مستقلة. والوظيفةُ التي تقعُ على كاهلِنا نحن الماركسيين، هي دعمُ كفاحِ الكردِ لنيلِ حقِّهم هذا". ما لا شائبةَ فيه، هو أنّه تركَ لديَّ انطباعاً عميقاً. لقد كان رمزَ الثوريةِ الحقة. حيث كان ثورياً ارتبطَ قولُه بفعلِه من رأسِه وحتى أخمصِ قدمَيه. ساطعٌ جلياً أنه كان أكثرَ شخصيةٍ أثرَت فيَّ. لقد تركَ إعجاباً عميقاً لديّ. بل وكان بَسَطَ للعيانِ في غضونِ اللحظةِ المقتَضَبةِ تلك وبنحوٍ صاعقٍ ما عليَّ فِعلُه بشأنِ هويتي الاجتماعيةِ التي تتميزُ بأهميةٍ مصيريةٍ بالنسبةِ لي، ورَسَمَ معالمَ الهويةِ التي عليَّ التحركُ بها. أما المقاومةُ الشهيرةُ التي خاضَها مع صديقِه حسين جواهر في نفسِ العامِ في منطقةِ مالتبه ضد قواتِ الدولةِ المسلحة، ووقوعُه أسيراً بيدِها وهو جريح، ثم تهريبُه من السجن، وبلوغُه مرتبةَ الشهادةِ مع رفاقِه في قزل دره في شهرِ آذار من سنةِ 1972؛ كلٌّ ذلك كان لَبَناتٍ أساسيةً رَصَفَت طريقي، وحَفَّزَتني للعبورِ خطوةً تلو الأخرى نحو الحياةِ المسماةِ بالثورية. وكان لن يَكُونَ أمامي أيُّ خيار، سوى المثابرةُ على دربي المُعَبَّدةِ بتلك اللَّبَناتِ الأساسية، ما دمتُ سأبقى على عهدي الذي قطعتُه مع نفسي، ومع مجتمعي.
كانت انطلاقةُ ماهر ورفاقِه قد أدت دوراً هاماً في تسجيلي في كليةِ العلومِ السياسيةِ بأنقرة بناءً على مِنحةٍ وعلى المُعَدَّلِ الذي خَوَّلَني لاحتلالِ مكاني بين الطلابِ العشرين الأوائل. وبُعَيدَ قُتِلَ ماهر ورفاقِه التسعةِ في قزل دره، كنتُ أقودُ الاعتصامَ الحاصلَ في مبنى كليةِ العلومِ السياسية. ولهذا السببِ مررتُ بفترةِ اعتقالٍ بدأَت في السابعِ من نيسان، لتستمرَّ سبعةَ أشهرٍ انتهَت بالحكمِ عليَّ بالسجنِ لمدةٍ قصيرةٍ بسببِ نقصِ الأدلةِ على عضويةِ التنظيم. ويَرجعُ الفضلُ في ذلك إلى النقيبِ باقي توغ، الذي كان عضواً في هيئةِ القضاةِ التي أصدرَت حُكمَ الإعدامِ على دنيز كزميش ورفاقِه (أعتقدُ أننا تخلَّصنا بأعجوبة من الحكمِ علينا بالسجنِ مدةَ خمسَ عشرةَ سنةً بسببِ عضويةِ التنظيم، وذلك بفضلِ والدِ صديقي دوغان فرتنا الذي اعتُقِلنا سويةً، والذي ينتمي إلى "جبهة حزب التحرير الشعبي في تركيا THKP-C"، حيث كان والدُه عقيداً ذا شأنٍ آنذاك). هذا وأَعلَمُ أنّ باقي توغ تأسفَ على ذلك فيما بعد. كنتُ قد أصبحتُ نصيراً في THKP-C سنةَ 1972، وكنتُ على مشارفِ نيلِ العضوية. بل وكنتُ أُعَدُّ عضواً فيه فعلياً. لكنّ فترةَ الاعتقالِ من جانب، وسياقَ التصفيةِ الذي عانى منه THKP-C بعدَ مجزرةِ قزل دره من الجانبِ الثاني؛ قد تُرِكَنا لوحدنا نواجه مصيرَنا.
وفي العامِ التالي، أي في مطلعِ 1973، كنتُ قد شرعتُ في الإعدادِ لتأسيسِ مجموعةٍ تلتفُّ حول أطروحةِ "كردستان مستعمَرة". كان التنظيمُ المنفصلُ سيمسي ضرورةً لا مفرَّ منها. لكننا لَم نَكُن نسلكُ موقفاً قوموياً. إذ كان حقي قرار يقفُ إلى جانبي في الصفِّ الأماميِّ ضمن تلك الأحداث. وبالفعل، كان هذا الرفيقُ المنتمي إلى ناحيةِ "أولوباي" التابعةِ لمحافظةِ "أوردو" بمنطقةِ البحرِ الأسودِ أحدَ اللامعين ممن كان لهم دورٌ في تبيانِ موقفي. وقد كان إلى جانبي عندما أصابتني حادثةُ الإغماءِ الأولى والأخيرةُ التي مررتُ بها. جليٌّ جلاءَ الشمسِ أنّ الرفاقيةَ أثناءَ ولادةِ الأفكارِ العظيمةِ تتحلى بأهميةٍ تاريخية. كنتُ أزاولُ الدعايةَ والتحريضَ ضمن المجموعةِ سِرّاً وشفهياً، وكأنني أُفشي بسِرِّ للحَول؛ دون الاعتمادِ على أيةِ وثيقةٍ كتابية. واستمرّت هذه الحالُ حتى مستهلِّ عامِ 1975. ومثلما ذكرتُ سابقاً، فأولُ مسودةٍ كتابيةٍ أصدرناها كانت في سنةِ 1975، عندما كنتُ في أحدِ المنازلِ مع محمد خيري دورموش، أتحدثُ واقفاً وكأنني أُلقي خطبة، بينما كان هو يدوِّنُ أقوالي مع مصادقةٍ منه. وكانت تلك الخطبةُ تقييماً بمثابةِ مسودةٍ حول حقيقةِ كردستان. وقد كنتُ جعلتُه يدوِّنُ مسودةً مطوَّلة. وإذ ما دُقِّقَ فيها، فسيُلاحَظُ أنها منسَّقةٌ ومنتَظمةٌ إلى حدٍّ كبير. إذ عُمِلَ فيها على سردِ تقييمٍ مِعياريٍّ تعتمدُه المجموعةُ بصددِ الوضعِ السياسيِّ العالميِّ والظروفِ الإقليميّة. والمستوى المُحرَزُ فيها كان يُشَكِّلُ إطاراً نظرياً يَفي بالغرضِ حينذاك. في الحقيقة، كانت مجموعتنا تمتلكُ الوعيَ الأيديولوجيَّ الأكثر انتظاماً وتنسقياً، على عكسِ ما يُعتَقَد. بمعنى آخر، فالمجموعةُ التي لمعَ نجمُها بجانبِها العملياتيّ، كانت توسِّعُ الهوةَ بينها وبين مثيلاتِها عن طريقِ أطروحاتِها القويةِ للغاية. كنا أقربُ إلى مجموعةٍ عقائديةٍ إيمانُها لا يتزعزع.
تدوينُ فكرةٍ ما شبيهٌ بولادةِ طفل. ثم تصبحُ القضيةُ الأساسيةُ فيما بعدُ رعايةَ تلك الفكرة، وإيصالَها إلى سِنِّ الرُّشدِ والبلوغِ سياسياً وعملياتياً؛ مما يُعَدُّ عملاً شاقاً قد يضارعُ ألفَ مرةٍ تنشئةَ طفلٍ ما بيولوجياً، بل وحتى اجتماعياً أيضاً. فنحن شاهدون على آلافِ الأمثلةِ التي حقَّقَت ولادةً حسنةً في تاريخِ الفكرِ والممارسةِ السياسية، ولكنها ماتت في سِنٍّ مبكرة. وقلةٌ نادرةٌ منها أثبَتَت جدارةَ رُشدِها بنجاح. مرّ عاما 1974 و1975 على الصعيدِ العملياتيِّ بتجربةِ "الرابطة الديمقراطية للتعليم العالي في أنقرة ADYÖD". وكنتُ تكفلتُ بمهمةٍ حساسةٍ بترأسِها. لقد كانت أولَ تجربةٍ عمليةٍ جادةٍ لأفكاري النظرية. والنتيجةُ كانت الانقطاعَ الاستراتيجيَّ عن اليسارِ التركيّ. إذ أَنجزنا الانقطاعَ الجذريَّ في 1976 بِمَعِيّةِ مجموعةٍ من رفاقِنا ذوي الأصولِ التركية (حقي قرار، كمال بير، ودوران كالكان). ونظريةُ المجموعةِ أيضاً كانت تتماشى وذلك. هكذا كانت فكرتُنا: لا يُمكنُ لليسارِ التركيِّ الرازحِ تحت سيطرةِ الشوفينيةِ الاجتماعيةِ أنْ يستجمعَ قواه، إلا بتطويرِ الحركةِ التحرريةِ الوطنيةِ الكردستانية. ومقولةُ كمال بير التاليةُ تشيرُ إلى خُلاصةِ الأمرِ بأفضلِ صورة: "تحررُ الشعبِ التركيِّ يمرُّ من تحررِ الشعبِ الكرديّ". وقد أثبتَ التاريخُ صحةَ هذه الفكرة.
دخلتُ عامَ 1977 وأنا أقومُ بتجوالي الرمزيِّ في أرجاءِ كردستان بهدفِ الدعاية. ففي شهرِ آذار، كنتُ قد صرَّحتُ بأطروحاتي علناً لأولِ مرةٍ في اجتماعٍ كان بمنزلةِ كونفرانسٍ حضرَه حشدٌ غفير، حيث عُقِدَ في مدينةِ أنقرة ضمن قاعةٍ واسعةٍ ضمن مبنى "غرفة المهندسين المعماريين". ثم بدأتُ بعدَها مباشرةً بالتجوالِ في كردستان بِمَعِيةِ نجاتي كايا، الذي كان من بلدةِ "تاشلي جاي" التابعةِ لـ"آغري"، والذي كان استقال من رتبةِ "ملازم أول طيار"، وسجَّلَ في كليةِ العلومِ السياسية. وكانت محطتي الأولى في "آغري" و"دوغوبيازيد". النقطةُ الهامةُ التي ينبغي الإشارةُ إليها، تتعلقُ بهويةِ نجاتي كايا. حيث دارت النقاشاتُ فيما بعدُ حول كونِه عميلاً أم لا. وإنْ لَم أَكُنْ مخطئاً، فأعتقدُ أنه كان لقيَ حتفَه أثناء سقوطِ طائرةِ رشِّ الأدويةِ التي كان يَقُودُها هو في أنطاليا. كانت علاقتُه معي خاليةً من العيوب. كان شديدَ الانضباط. وكنا قد عقَدنا أولَ اجتماعٍ جادٍّ لنا في مطلعِ شهرِ كانون الثاني من عامِ 1977 في منزلِه الكائنِ في أنقرة. وطيلةَ هذا الاجتماعِ الهامّ، الذي عقَدناه بحضورِ كوادرِنا الوافدين من أنقرة وممثلينا الذين ناديناهم من عمومِ كردستان؛ كنا تَرَكنا فوهةَ المدفأةِ مفتوحة، احتياطاً لاحتمالِ أيةِ مداهمةٍ مباغِتةٍ للبوليس. إذ كنا سنرمي بملاحظاتِنا المكتوبةِ إلى داخل المدفأةِ فوراً، لتحترقَ فيها في حالِ حصولِ أيةِ مداهمة. هذا ولَم يَكنْ في حوزتِنا أيةُ مستنداتٍ مكتوبةٍ من الأساس. مع ذلك، وحسبَما يخطرُ ببالي، فقد كان نجاتي يُمسِكُ بالمَملَحةِ أثناءَ تناوُلِنا الطعامَ في ذاك الاجتماعِ حينما قالَ ما معناه: "تُصطادُ الطيورُ وتُطهى، ثم يُرَشُّ عليها المِلحُ بهذه المَملَحة، ثم تُؤكَل". لَم أدركْ معنى قولِه أبداً آنئذ. ثم اقترحَ هو وكمال بير، وبإصرارٍ شديد، أنْ تُخطَفَ صبيحة كوكجان (أولُ طيارٍ أنثى، وابنةُ أتاتورك الفخرية)، إلى جانبِ نهبِ أحد عمال البريد المُحَمَّلين بالمال. لكني لَم أسمحْ بهكذا نوعٍ من العملياتِ لسببَين: لأنّ حادثةَ قيامِ النقيب إلياس آيدن بتوجيهِ ماهر جايان ومجموعتِه لتنفيذِ عملياتٍ استفزازيةٍ لا تزالُ حيةً في ذاكرتي، فضلاً عن قناعتي بعدمِ سماحِ تموضُعِ مجموعتِنا وموقعِها بالقيامِ بذلك. ولو أنّ تلك العمليتَين نُفِّذَتا فعلاً، لَربما كان ذلك بدايةَ نهايتِنا، أو لَطُوِيَت صفحةٌ من عمرِنا بنحوٍ مختلفٍ بأقلِّ تقدير. لقد كان تعامُلي المُحتاطُ في محلِّه في هذا الخصوص.
علاوةً على أنّ نجاتي كايا كان يَصرفُ على المجموعةِ بإسرافٍ فاحشٍ من أموالِه التي زعمَ أنها تأتيه من التعويضاتِ التي يحصلُ عليها. وكان بذاتِ نفسِه يقولُ لي: "بمجردِ أنْ تأمرَني، فسأقفزُ رامياً بنفسي من الطابقِ الرابعِ لذاك المبنى إلى أسفل". كان صريحَ الكلام، ووفياً لوعدِه. وكان قد حضرَ بذاتِ نفسِه أولَ وأوسعَ اجتماعٍ لي عقدتُه على حوافِّ جبالِ آغري أثناء تجوالي في كردستان. وبعدَ ذلك انفصلنا عن بعضِنا بعضاً. وإنْ لَم تَخُنّي ذاكرتي، أعتقدُ أني لَم أَرَه بعدَ ذلك قطّ، أو نادراً ما قابلتُه. كان قد باشرَ بالبحثِ المُضني عني أثناء انطلاقِنا نحو الخارج. كان يودُّ اللقاءَ بي دون بُد، وذهب إلى منزلِنا الذي في القريةِ لهذا الغرض. كنتُ قد حزنتُ عندما وصلني نبأُ وفاتِه بعدَ إنجازِنا الخروجَ من الوطن. دارت النقاشاتُ حول كونِه عميلاً أم لا، ولاقَت تلك النقاشاتُ صداها في وسائلِ الإعلامِ أيضاً. أنا أيضاً تصرفتُ بحيطةٍ شديدةٍ إزاءَه، بسببِ ظنوني التي راودتني بحقِّه. خلاصةً، إنْ لَم يَكُن عميلاً، أو حتى لو كان كذلك ولكنه لَم ينفِّذْ أياً من متطلباتِ العَمالةِ عن وعيٍ وقصد؛ فيتعينُ حينها اعتبارُه كادراً عزيزاً من كوادرِ مرحلةِ المجموعةِ الأولية. وعندئذٍ سيَكُونُ قيمةً جديرةً برَدِّ الاعتبار. أما إذا كان عضواً في الكونتر كريلا، فمن عظيمِ الأهميةِ تبيانُ أنّ مخططاتِه ذهبَت أدراجَ الرياح، ولَم تَجِدْ لها صدى على أرضِ الواقع، وأنّ اقترابي بحيطةٍ وحذرٍ لعبَ دوراً أولياً في ذلك.
أتذكرُ أنّ إحساساً تَمَلَّكَني، وكأنني أنجزتُ جولةً في ميدانِ حربٍ حقيقية، عندما أتمَمتُ تجوالي في كردستان وعَرَجتُ على مُدُنِ: آغري، دوغوبيازيد، قارص، ديغور، ديرسم، بينغول، ألازغ، ديار بكر، ماردين، أورفا، وغازي عينتاب؛ بالإضافةِ إلى خطِّ أنقرة. ثم دُوِّنَت أحاديثي التي أدليتُ بها أثناء التجوال. وإذ ما دُرِسَت بإمعان، فسيُرى أنّها حالةٌ مُطَوَّرةٌ لمسودةِ الحديثِ الذي دوَّنَه خيري عندما ألقيتُ خطاباً بحضورِه. هذا وقد أصبحَت تلك الأحاديثُ قُوتاً أيديولوجياً أساسياً تتغذى عليه المجموعةُ لسنواتٍ عدة. أي أنّ ما فعلَته المجموعاتُ الأخرى عن طريقِ الصُّحُفِ والجرائد، كنتُ أنجزُه أنا بهذا الأسلوبِ الأقرب إلى جريدةٍ أو مجلةٍ جوّالة. وكانت المراحلُ اللاحقةُ ستمرُّ دائماً بتعميقِ ماهيةِ هذه الأحاديث. وفي سنةِ 1978 انتقلَنا إلى المرحلةِ الكتابيةِ مع جريدةِ سرخبون Serxwebûn (أي استقلال الذات، وهي أقربُ إلى كلمةِ خويبون Xoybun). حيث نُشِرَ في أولِ عددٍ لها مقالي الذي كتبتُه في صيفِ 1978، والمُعَنوَنُ باسمِ "طريقُ ثورةِ كردستان"، أو باسمِه الآخر "المانيفستو".
لَم يمضِ سوى بضعةُ أيامٍ لي في أنقرة، عندما وصلَنا من عينتاب نبأُ استشهادِ حقي قرار. بوسعي القولُ أنني أُصِبتُ بالانهيارِ على خلفيةِ هذا الخبر. كان مؤكداً أننا تَكَبَّدنا ضربةً قوية. لكنّ المهمّ كان الردَّ على ذكراه بجوابٍ صحيح. لَم أتمكنْ من الحضورِ شخصياً في مراسيمِ العزاء. لكني بعدَ ذلك زرتُ قبرَه في ناحيةِ أولوباي التابعةِ لمحافظةِ أوردو. وكان القَسَمُ الذي قطعتُه على نفسي وفاءً لذاكراه، هو توجيهُ المجموعةِ نحو التحولِ الحزبيّ. فدوَّنتُ بذاتِ نفسي وثيقةَ مسودةِ برنامجِ الحزبِ في خريفِ العامِ عينِه. ما قمتُ به حينذاك، كان محاولةً لاقتفاءِ أثَرِ شهادةٍ حصلت في حيٍّ هامشيٍّ من أحياءِ عنتاب.
وفي تلك الأثناءِ مررتُ بحادثتَين أُخرَيَتَين هامتَين تَبدوان وكأنهما متعلقتان بالحياةِ الخاصة، ولكن، لهما معناهما الأيديولوجيُّ والسياسيُّ مضموناً. أُولاهما كانت وفاةَ والدي في 1976. كنتُ هادئاً عندما سمعتُ بالنبأِ في أنقرة، ولا أتذكرُ أنني ذرفتُ الدموعَ عليه. لقد تحققَ تنبُّؤٌ له بحقي، إذ كان قال: "لن تذرفَ الدمعَ عليَّ حين أموت". أظنُّ أنه كان قرأَ روحَ ذاك الزمان، حيث كان يشيرُ إلى حقيقةِ الحداثة. لَم أَكُنْ على تناقضٍ معه بقدرِ ما كنتُ عليه مع أمي. وأهمُّ تناقضٍ معه كان قد توَلَّدَ في الأيامِ التي باشرتُ فيها بأولِ تمردٍ على القريةِ والعائلة. حيث كان يَعقِدُ الآمالَ عليَّ خِلافاً للآخرين حولي، وكان قد بَشَّرَني بالنجاح. وعندما فسَّرتُ وضعَه بعد ذلك بزمنٍ طويل، أدركتُ أنه وقى نفسَه وحافظَ عليها كعنصرٍ وفيٍّ جداً للتقاليدِ ولَم يُصَبْ بالانحلالِ أبداً. كما وكان يتمتعُ بأخلاقٍ دينيةٍ وطيدةٍ على الصعيدِ الفرديّ. لقد كان بمثابةِ فردٍ واهنٍ في حلقةِ التقاليدِ العائليةِ التي كانت منيعةً في الماضي. وكان خسرَ قوةَ الرجولة. لذا، كانت سلطةُ الأمِّ تطغى على العائلة. من هنا، فالتوازنُ القائمُ بين كِلتا السلطتَين المتجسدتَين في أمي وأبي، كان يتيحُ لي فرصةَ تحقيقِ الانطلاقة. كانت الطموحاتُ التي علَّقَها كِلا الطرفيَن عليَّ قد نَفُذَت وانتهَت. لذا، بمقدوري تبيانُ أني استحوذتُ على نسبةٍ هامةٍ من حريتي داخل العائلة. ولا أدري تماماً ما الذي شعروا به، عندما تَرَكوني وحيداً أمام عالَمِ الحداثةِ الذي لَم يَفهموه، أو بالأحرى أدركوه ولكنهم عجزوا عن تذليلِه. ومع ذلك، كانوا يثقون بي. من هنا، يجب عدم الاستخفافِ بالانتماءِ إلى عائلةٍ صادقةٍ متشبثةٍ بكرامتِها، ولكنها ضعيفةٌ واهنة.
الحادثةُ الثانيةُ كانت ولعي بالمرأة، والذي ازدادَ انتكاساً في تلك السنوات. وقبل تَشَكُّلِ المجموعة، لَم أكُ شخصاً يتحلى بالقدرةِ التي تؤهلُه للدنوِّ من المرأةِ في ظلِّ ظروفِ الحداثة. فقد كان عالَمُ المرأةِ عالَماً أجهلُه وأحذرُه. ولَم يَكُ لديَّ سوى عواطفي الأفلاطونية الجياشة بين جوارحي. ولن يَكُونَ بإمكاني قطعياً أنْ أبوحَ بهذه العواطفِ لأحد. لقد كانت نظراتُ النساءِ جاذبةً للنظرِ مذ كنتُ في القرية. ولكني كنتُ عاجزاً عن استيعابِ فحواها. وعندما فسّرتُها فيما بعد، أعتقدُ أني استوعبتُ الفارقَ الكامنَ في تلك الجاذبية. فقد أدركنَ فارقي الذي يميزني باهتمامٍ ملحوظ. ولَربما تولدَ لديهن بصيصٌ من الأملِ تجاهي فيما يتعلقُ بشأنهن. وكأني بهن يَقُلْن لي: "أيها الطفل، إنك تجهلُ ما يحلُّ بنا. فوضعُنا ليس كما يبدو لك. ليتكَ تعلمُ ما يجري! لكن، وحتى لو كنتَ رجلاً، فإننا نعلقُ عليك آمالَنا". لَم أكُنْ غيرَ منتبِهٍ للجمالِ الكائنِ في المرأة. ويخطرُ ببالي أنني كنتُ أُكِنُّ إحساساً تجاه فتاةٍ كرديةٍ يتخلصُ فحواه على النحوِ التالي: "أنتِ خليقةٌ بأنْ أخوضَ حربَ الاستقلال من أجلكِ أنت، ومن أجلِ نَسَبِكِ وقومِك".
تعرفنا في مرحلةِ المجموعةِ على الشخصيةِ المسماةِ كسيرة يلدرم، نظراً لقَرابتِها مع مظلوم دوغان حسبَ اعتقادي. وبسببِ اهتمامِها بالمجموعة، فقد بدأنا نَعتَبِرُها واحدةً من أعضائِها. لَم أَكُنْ على علمٍ بحياتِها الماضيةِ إطلاقاً. لكنّ الشكَّ دبَّ فيَّ منذ البداية، انطلاقاً من اعتقادي باحتمالِ أنْ تلعبَ بشكلٍ موضوعيٍّ دوراً انقلابياً ضمن المجموعة (بمعنى الإخلال بنظامِ المجموعة). ولَم أَكُ أتحلى بالقدرةِ على ضبطِها. لذا، شعرتُ بالحاجةِ إلى اقتراحِ كَتبِ عقدِها على أحدِنا – سواء كان هذا الشخصُ أنا أو أيُّ فردٍ آخر – لأجلِ سلامةِ المجموعة، ولو أنه كان تدبيراً تعصبياً ومشحوناً بالآثارِ التقليدية. في الحقيقة، كنتُ آملُ أنْ تُفَضِّلَني. لكنّ المرأةَ كانت تتمتعُ بشخصيةٍ ماكرةٍ كالثعلب. إذ أدركَت الحقيقة، أي انتبهَت إلى محاولتي في ضبطِها. لذا، فضَّلَت شخصاً آخر. فتحطَّمَ كبريائي التقليديّ، ولكني لَم أَقُلْ شيئاً. إذ لَم أَجِدْه لائقاً بي أنْ أعترضَ على ذلك. ومع ذلك، فخيارُها كان أَشبَهَ بقولِ آمينٍ لدعاءٍ مستحيل. إذ لَم تستمرّْ، أو عجزَت عن الاستمرارِ بعلاقتِها. وعندما تقدمتُ بعقدِ العلاقةِ معها ثانيةً، كان الإرهاقُ قد أصابني ونخرَ بي، وكنا حينها قد خسرنا عضواً عزيزاً علينا من المجموعة.
بدأَت حالتي العاطفيةُ المنتكِسةُ تصبحُ مشكلةً جادة. بَيْدَ أنني عادةً ما توخيتُ الحذرَ الشديدَ كي لا أعكسَ مشاكلي الشخصيةَ على المجموعةِ أو الحزبِ أو حتى على "قوات تحرير كردستان HRK" في أيِّ وقتٍ من الأوقات. وتكررَت أزمةٌ شبيهةٌ بتلك التي كنتُ مررتُ بها في أواخرِ سنةِ 1960 بصددِ الربّ، أو لِنَقُلْ أنها حلَّت محلَّها حولَ محورِ هذه المرأةِ في هذه المرة. لا علمَ لي البتة بدوافعِ دنوِّ تلك المرأةِ من المجموعة. ولا أعتقدُ أنها شعرَت باهتمامٍ جنسيٍّ نحوَها. لكنّ الأكيدَ هو أنها تتحكمُ بالاهتمامِ الجنسيِّ إلى آخرِ درجة. وقد خُدِعتُ في هذه النقطة، حيث عاندتُ رغمَ افتقاري إلى القوةِ التي تُمَكِّنُني من الحظي بها. وتقدمتُ بالعلاقةِ إلى مستوى عقدِ زواجٍ صوريٍّ أحاديِّ الجانب. ولأولِ مرةٍ ذهبتُ ببطاقةِ الزواجِ على متنِ الطائرةِ مُحَلِّقاً إلى ديار بكر في مطلعِ صيفِ 1978. ولَربما أمسيتُ عندئذٍ كمَن يُمضي أسوأَ شهرِ عسلٍ شَهدَه التاريخُ في علاقاتِ البشر، وأكثرَه غرابة. إذ لَم يَكُنْ يتبقى في حوزتي أيّةُ فرصةٍ للحلّ، عندما تتحولُ تلك المرأةُ إلى قالبٍ جليديّ. ولَم أَكُنْ قادراً على البوحِ بهمومي وأحزاني لأيِّ أحدٍ كان، لأنّ المسؤولَ الوحيدَ عن ذلك هو أنا. ولَم تَكُنْ لها أيةُ مسؤوليةٍ في هذه العلاقة. لقد كنتُ وقعتُ في عالَمٍ أحصدُ فيه ما زرعَته يداي . وفي واقعِ الأمر، ما كان لي أنْ أُخَمِّنَ أو أعتقدَ أو أعلَمَ بتاتاً بإمكانيةِ وجودِ هويةٍ نسائيةٍ من هذا النوع. لقد كانت منتصبةً أمامي بكلِّ مَكرِها الثعلبيّ. ولا أعتقدُ أبداً أنّ مثيلاً لهذا الصبرِ الذي أبديتُه بهذه الحالةِ طيلةَ عشرِ سنواتٍ قضيتُها معها، أي حتى اللحظةِ التي انفصلَت فيها عن الحركةِ بمحضِ إرادتِها في خريفِ عامِ 1987؛ قد جُرِّبَ بين أيِّ شخصَين آخرَين. لقد كانت تجربةً مذهلةً حقاً.
يتعينُ النظرُ بعينِ المعجزةِ إلى النفاذِ بسلامةٍ من هذه العلاقة. وتكمنُ المشقةُ في حفاظي على شخصيتي تجاه المتغيراتِ التي تَقلبُ وضعَ المرأةِ رأساً على عقبٍ في ثقافةِ الشرقِ الأوسط. إذ ما كان للشجارِ أو الطلاقِ أنْ يَكُونا حلاً. ولهذا السببِ بالتحديدِ كنتُ طابقتُ بين وضعي إزاء تلك الشخصيةِ من جهة، وبين أزمتي التي مررتُ بها إزاء ظنوني بصددِ وجودِ الربّ. هذا وكان يتحتمُ عليَّ تحليلُ هذه العلاقةِ أيديولوجياً وسياسياً. فضلاً عن استحالةِ صياغةِ حلٍّ أيديولوجيٍّ وسياسيٍّ بكلِّ معنى الكلمة، ما لَم تُصَغْ التحليلاتُ بشأنِ المرأة. لكنّ قدرتي على تحليلِ المرأةِ لَم تَكُ قد تطورَت حينها. وما كان لي أنْ أُطَوِّرَها، إلا اعتباراً من سنةِ 1987. لكن، وكيفما كان نشاطُ "مسودة البرنامج" رداً مني على شهادةِ حقي قرار، فإنّ النشاطَ المسمى بـ"طريق ثورةِ كردستان" كان أيضاً رداً مني على هذه الحربِ النفسية. حيث أَعدَدتُ هذا العملَ في صيفِ 1978 كأرضيةٍ سياسيةٍ للبرنامج. وقيامي شخصياً بتدوينِ "مانيفستو الثورة الكردستانية" ضمن الحالةِ النفسيةِ التي سادت الأجواءَ حينها، كان يتطلبُ مني مقدرةً كبرى ومهارةً عُظمى. وهذه هي الحقيقةُ التي قصدتُها من الإشارةِ إلى وصفِ المعجزة.
إنّ عدمَ قبولِ كلٍّ من كمال بير وجميل بايق ومحمد خيري دورموش بالصفحِ عما لاحظوه في السنواتِ الأولى من هذا السياقِ من قلةِ الأدبِ المُرَوِّعةِ واللااحترامِ الشنيعِ مما بَدَرَ من تلك المرأةِ تجاهي، وتخطيطَهم لقتلِها دون عِلمي، ثم سلوكَ كمال بير موقفَه الرفاقيَّ الذي لا مثيلَ له حينما قال "لنَدَعْ الأمر، ثمة ما يَعلَمُه الرفيقُ ونَجهلُه نحن"؛ كلُّ ذلك قد يسلطُ النورَ قليلاً على الوضع. ومثلما الحالُ في مثالِ نجاتي كايا، كثيراً ما دارَ النقاشُ حولَ احتمالِ كونِها عميلة، نظراً لعلاقةِ العمالةِ والتواطؤِ التي عقدَها أبوها مع عصمت إينونو بذاتِ نفسِه منذ عصيانِ 1925. وبالفعل، فنحن – وأنا – لا ندري إنْ كانت عميلةً أم لا. كنتُ واعياً إلى ضرورةِ عدمِ الحُكمِ على أنسانٍ ما بسببِ أبيه. وإزاء تلك الانتقادات، كان موقفي يتلخصُ على النحوِ التالي: "إنّ العيشَ ضمن علاقاتِ المجموعةِ مع شخصيةٍ عَلَوِيّةٍ ويساريةٍ ومتحضرةٍ ومثقفةٍ وذاتِ أصولٍ كردية، سيَكونُ أفضلَ بكثير من عدمِها". وعجزي عن خوضِ تجربةٍ عاطفيةٍ ناجحةٍ وإيجابيةٍ معها، كان يجب ألا يُفضيَ إلى الحكمِ عليها سلبياً. بل كان ينبغي أنْ يَكُونَ القرارُ المتَّخَذُ بحقِّها ضمن إطارِ القواعدِ التنظيميةِ تماماً. وقد حافظتُ على موقفي هذا، إلى أنْ هرَبَت هي من صفوفِ الحركة. لكنّ الواضحَ بما لا جدالَ فيه، هو أنها دبَّرَت أعمالاً تصفويةً بالغةَ التأثيرِ دون عِلمٍ مني، وأنها كانت تؤدي ذلك الدورَ موضوعياً. كما وبالمستطاعِ القولُ أنها لَم تُسَخِّرْ صفاتِها الإيجابيةَ جداً في خدمةِ الحركة.
هذا وكان بإمكانِها قتلي في حالِ كانت أرادت أو خططَت لذلك. يخطرُ ببالي أنها في أحدِ الأيام، وخاصةً عندما قاربتُ على الهروبِ منها، قالت لي: "لا تَخَفْ، لن أُسَمِّمَك". علماً أنّ العملاء في تلك الفترةِ كانوا مندفعين لقتلي بنحوٍ حتميّ. مع ذلك، ينبغي تناوُلُ الأمرِ بحيطةٍ وحذر. إذ ما يبعثُ على التفكيرِ مَلِيّاً هو: وصولُ كِلا السائقَين لديِّ إلى حافةِ الانتحارِ في آخرِ مراحلِ علاقتي معها؛ وقولُ أحدِهما والذي يسمى بالرفيق فرحان: "يجب ربطُها بأربعةِ أحصنةٍ وتمزيقُها إرباً إرباً"؛ وهروبُ السائقِ الآخَرِ الذي يسمى صبري؛ وتأوُّهاتُ أدهم أكجان، الرفيقُ الوحيدُ المُصاحِبُ لي أثناء خروجِنا نحو الشرقِ الأوسط، وصُراخُه قائلاً ما معناه "ما الذي يُحاكُ من وراء ظهرِ القائد؟"، وبلوغُه مرتبةَ الشهادةِ بسببِ التشنُّجِ المَعِدِيِّ الناجمِ عن الوجعِ الذي أَلَمَّ به حصيلةَ ذلك. كما إنّ أداءَها دورَ الشخصِ المتسترِ وراء العديدِ من التصفياتِ الحرجةِ البارزة، وتوجيهَها إياها من خلفِ الستارِ يُعَدُّ أمراً ذا أهمية. أما شلُّها تأثيرَ عددٍ كبيرٍ من الرفاقِ لدرجةٍ أَشبَهُ بالتنويمِ المغناطيسيّ، فعُمِلَ على عَزوِها إلى خصائصِ التكتلِ القويةِ لديها. من هنا، فهي علاقةٌ وشخصيةٌ لا تنفكُّ تقتضي التوقف عندها بإمعانٍ ودقة.
الشخصيةُ الأخرى التي جذبَت الأنظارَ إليها في هذا المضمار، كانت شخصيةَ ديلاور يلدرم. لقد كان رفيقاً لامعاً ويَعِدُ بمستقبلٍ مشرق. وبقيَ معتَقَلاً أثناءَ انقلابِ 12 أيلول. واحتلَّ مكانَه في المجموعاتِ المختلطة. المثيرُ في أمرِه هو خروجُه إلى أوروبا عن طريقِ بلغاريا دون معونةِ أحد، ثم تجوالُه في أوروبا لمدةٍ من الزمن، ثم مجيئُه إلى عندي في الشرقِ الأوسط، وتَكَلُّمُه النادرُ جداً، وقولُه لي ما مفادُه "تجوالُك خطرٌ عليك" حسبما أتذكر، وأخيراً انتحارُه في معسكرِ البقاعِ بعدَ كتابتِه رسالةَ وداعٍ لي، وذلك إِثرَ قولِ رفيقةٍ أو رفيقتَين بسيطتَي المستوى والأفقِ له "إنك تطمعُ في منصبِ القائد". إنه واحدٌ من الرفاقِ الذين يتوجبُ المساءلةُ والتحقيقُ في أمرِهم لكشفِ النقابِ عن هويتِهم.
حجرُ الأساسِ الهامُّ الآخَرُ على الدربِ الذي لا عودةَ منه، كان عقدَ اجتماعِنا في قريةِ فيس التابعةِ لديار بكر، والذي حضرَه اثنان وعشرون شخصاً، وكان بمثابةِ المؤتمرِ التأسيسيِّ, واستمرَّ لمدةِ يومَين فيما بين 26 و27 تشرين الثاني من سنةِ 1978؛ وذلك بناءً على برنامجِ الحزبِ المُعَدِّ استذكاراً لحقي قرار. وفي حقيقةِ الأمر، فإطلاقُ تسميةِ PKK على أنفسِنا، والإعلان عن ذاتِنا كان نهايةً لمرحلةٍ من هذا السياق. فما ينبغي علينا عملُه، سواء وفق الظروفِ العالميةِ والتركية، أو ضمن الممارسةِ الميدانيةِ للمجموعة؛ كان قد نُفِّذَ من أساسِه. الطرازُ الثوريُّ هامٌّ هنا. حيث لَم يَقتَصِرْ الأمرُ على القولِ وحسب، بل وتمَّ عيشُه بالتداخلِ مع ممارسةٍ عمليةٍ كثيفة. الأمرُ الذي كان يتعينُ إدراكُه في معمعانِ الظروفِ الموضوعيةِ القائمة، هو إنجازُ انطلاقةٍ باسمِ الطبقةِ "العاملة" في أحشاءِ ثالوثِ المدينةِ والطبقةِ والدولةِ القومية. وقد تماشى المستوى النظريُّ والعمليُّ مع ذلك. كان هناك العديدُ من المجموعاتِ الأخرى. لكنّ أياً منها لَم تقدرْ على تجسيدِ الثوريةِ الشاملةِ في ذاتِها بقدرِ ما كانت عليه مجموعتُنا. ولهذا السببِ بالتحديدِ أَمسَكَ الانقلابُ العسكريُّ بزمامِ تلك المجموعاتِ وهي على غفلةٍ من أمرِها.
سعيتُ إلى اتخاذِ التدابيرِ اللازمةِ في اتجاهَين اثنَين بدءاً من عامِ 1979. فبينما جرَت الاستعداداتُ لكفاحٍ جبليٍّ طويلِ المدى من جهة، كنتُ أتطلعُ من الجهةِ الثانيةِ بالذهابِ لخارجِ الوطنِ إلى فتحِ مَنفَسٍ آخَر احتياطيٍّ لأجلِ الحركة. وإذ ما نجحتُ في ذلك، كانت ديمومةُ الحركةِ ستصبحُ واقعاً قائماً. فالقيامُ بالحملاتِ التكتيكيةِ الملائمةِ للظروفِ السائدة، يساوي في أهميتِه صياغةَ الاستراتيجيا. لقد كنا نمرُّ بمرحلةٍ كهذه. كنتُ قد ناديتُ فرهاد كورتاي إلى جانبي في الشهورِ الأولى من ذاك العام، والذي كان سيَستشهدُ لاحقاً في سجنِ ديار بكر. وكنا حَمَلنا معنا آلةَ النسخِ عندما كان يُقِلُّني بسيارتِه الرسميةِ إلى منطقةِ "قزل تبه". وكانت مجزرةُ مرعش قد حصلت في تلك الأثناءِ بعد مرورِ حوالي شهرٍ على انعقادِ الاجتماعِ التأسيسيِّ لـ PKK. ذلك أنّ مرعش كانت منطقةً يطغى عليها نفوذُنا. ما كان قائماً آنئذٍ هو حركةُ تتريكٍ شهدَتها المنطقةُ المسماةُ "غربي الفرات" منذ سنةِ 1925 حين أُقِرَّ بتصفيةِ الكردِ وأُدخِلَ القرارُ حيزَ التنفيذ. وكنا قد أحيَينا الكردايتيةَ هناك نسبياً. هذا وكان يُرَدُّ على مساعينا هذه بمنوالٍ مشابه، من خلالِ المجازرِ المُرتَكَبةِ في كلٍّ من ملاطية وأديامان وألازغ. أي أنّ المجازرَ لَم تَكُ عملياتٍ فاشيةً مدنيةً بسيطة، بل كانت بمنزلةِ استمرارٍ للإبادةِ الجماعيةِ التاريخيةِ بدعمٍ ورعايةٍ من شبكةِ غلاديو التابعةِ للناتو. وبإعلانِ PKK في ديار بكر، كنا نعطي الجوابَ على تلك المجازر. لقد أُلقِيَت هذه الخطواتُ التاريخيةُ وارتُكِبَت تلك المجازرُ مقابل ذلك، في السنةِ التي كانت حكومةُ بولند أجاويد تحتضرُ وتلتقطُ آخرَ أنفاسِها فيها. كما كانت السنةَ التي أَمسَكَ الكونتر كريلا فيها بزمامِ المبادرة. إذ شُرِعَ بمحاولةِ اغتيالِ أجاويد بذاتِ نفسِه. هذا وكانت حادثةُ مجزرةِ تاكسيم أيضاً قد ارتُكِبَت قبل عامٍ من ذلك على يدِ القوةِ عينِها.
عندما وصَلنا منتصفَ سنةِ 1979، كنتُ قد قلتُ لأدهم أكجان الذي ينتمي لمدينةِ "سروج" أنْ يتأهبَ للعبورِ عبر الحدود. مررتُ في أورفا بمرحلةِ انتظارٍ طالت أربعين يوماً، كنتُ أعيشُ خلالَها وضعاً خاصاً وشبيهاً كلَّ الشَّبَهِ بوضعِ إبراهيم الخليل. إذ كنتُ حطَّمتُ الكثيرَ من أوثانِ المدنيةِ والحداثةِ آنذاك. لقد كان لقاءً مثيراً حقاً عندما تواجدتُ في مدينةِ نمرود، في الوقتِ الذي كان النماردةُ فيه منتصبين يتملكُهم الغيظُ والغضب. كنتُ أسيرُ على خُطى إبراهيم وانطلاقتِه. يمرُّ اسمُ مدينةِ سروج Suruç على شكلِ ساروج Seruc في الكتابِ المقدس. ما كان يجري فيها هو أوضاعٌ متشابهةٌ تكادُ تُعاشُ في كلِّ انطلاقةٍ تلي العصيانَ والتمرد. ذهبتُ إلى قلعةِ أورفا في تلك الأثناء، وجُبتُ جميعَ أرجائِها. وقفتُ ساكناً لمدةٍ طويلةٍ عند العمودَين اللذَين تنصُّ الأسطورةُ على أنّ سيدَنا إبراهيم رُمِيَ به من بينِهما إلى النارِ بالمنجنيق؛ وهناك شردتُ مستغرقاً في النظرِ إلى أسفل. وبعدَ بضعةِ أيامٍ أخطَرَني أدهم بأنّ الظروفَ مناسبةٌ للخروج. وقصدُه من الجاهزيةِ كان الترتيبَ لتأمينِ سيارةِ القريةِ التي ستُقِلُّنا إلى الشريطِ الحدوديّ. استقلَّيتُ السيارة مندساً بين القرويين فيها، ثم تَرَجَّلنا منها عند قريةٍ حدودية. ولا أبرحُ أفكرُ فيما إذا كان ركوبي سيارةَ الحداثةِ تلك أمراً في محلِّه أم لا. وأهمُّ نتيجةٍ استخلصتُها كانت كالتالي: إنّ تنفيذَ العملِ من خلالِ كافةِ الوسائلِ الذهنيةِ والفيزيائيةِ للحداثة، أخطرُ بكثير من ائتمانِ آلهةِ العصورِ الأولى على مصيرِك. مع حلولِ المساءِ دخلَت الخطوةُ الثانيةُ من الجاهزيةِ قيدَ التنفيذ. فالمُرشدُ الذي يُسمى "جَهني Cehni" أيقظَنا قائلاً "هيا!". وعندما قامَ حارسُ الحدودِ برفعِ الأسلاكِ الشائكةِ وتمريرِنا قائلاً "هيا يا ابنَ بلدي، أسرعْ"، عبَرنا على الفورِ حقلَ الألغامِ بوضعِ قَدَمَي مكانَ وطأةِ قدَمِ أدهم والسيرِ سيرَ الماعز. هذه التجاربُ التي كانت عملاً يومياً بالنسبةِ للجميعِ فيما عداي، كانت بالنسبةِ لي خطوةً تاريخيةً وحيدةً أفتقرُ فيها للجاهزيةِ أكثر مما كان عليه دونكيشوط بعينِه. مساعدي الوحيدُ كان أدهم، عندما كنتُ أطمحُ في بثِّ روحِ الإيمانِ مجدَّداً في وطنٍ عاثَ فيه النماردةُ وسَوَّوه بالأرضِ مدى آلافِ السنين. موضوعُ الحديثِ هنا كان شعباً بُلِغَ به عتبةَ الإنكارِ والإبادةِ والفناء. لقد كان هذا الشعبُ يرزحُ تحت نيرِ إبادةٍ وإنكارٍ ثقيلَي الوطأة، لدرجةِ أنه لَم يتبقَّ لديه أوثانٌ يعبدُها. وحتى الأوثانُ المحَطَّمةُ كانت حُطاماً من أوثانِ الحداثةِ لا غير.
ومثلما حالُ سيدِنا إبراهيم، وجدتُ نفسي بين الفلسطينيين بعدَ مسيرةٍ دامَت شهراً أو شهرَين. وكانت بدأَت أيامي هناك من دونِ معرفةٍ باللغةِ أو وجودِ مترجِم. كانت أياماً لا يوجدُ فيها شيءٌ يتشبثُ به المرءُ للمقاومة، فيما خلا أهميةِ الهدفِ المأمول. ولولا تضحياتُ أدهم، لَكانت محاولاتي عبثاً وعَدَماً. لذا، لَن يَعيَ الأهميةَ العظمى للتنظيمِ والعلاقاتِ الهادفةِ إلى مجتمعيةٍ جديدةٍ بالدرجةِ التي تستحقُّها، إلا أولئك الذين خاضوا تجارباً كهذه. وما عشتُه ضمن PKK كان الحقيقةَ التي قلَّما أُدرِكَ كَنَهُها وأهميتُها. فكأنه تمَّ رَكلُ هذه العلاقةِ التي عقدناها في تلك الساحة، بالرغمِ من أنها تكادُ تَكُونُ أهمَّ من نيلِ نصرٍ كاسحٍ في ساحةِ الوغى. حيث لَم تُدرَكْ قيمتُها بتاتاً، بل واستُثمِرَت باستخفافٍ واستهزاء. وبينما دفعَ كلُّ الرفاقِ الأوفياءِ ثمنَ ذلك بمعاناتِهم مخاضاتٍ أليمةً وتَكَبُّدِهم خسائرَ مأساوية؛ فقد استغلَّها بعضُ الماكرين المحتالين ليعيشوا بطولةً رخيصة. كانت قبيلةُ إبراهيم عانَت الأمرَّين في مسيرتِها. ونحن أيضاً كنا ضرباً من ضروبِ قبيلةٍ عصرية. وعانَينا المشقاتِ على نفسِ الدرب، وربما في نفسِ الأماكنِ أيضاً. كما وتُشبهُ انطلاقتُنا انطلاقةَ سيدِنا موسى من مصرَ أيضاً. وبالأصل، فقد كنا وكأننا ننتمي إلى القبائلِ عينِها. يَلوحُ فيما يَلوحُ أنّ القصةَ ذاتَها تُعاشُ وتكررُ آلافَ المراتِ على خطِّ أورفا – حلب – الشام – القدس – مصر منذ عهدِ السومريين والفراعنةِ المصريين. وحسبَ رأيي، فتاريخُ البشريةِ مرسومٌ على هذا الخطِّ الذي خطَّته أولى المجموعاتِ البشرية، بدءاً من انطلاقِها من أفريقيا متوغلةً في أعماقِ آسيا وأوروبا، وحتى يومِنا الراهن. وانطلاقتي، أو انطلاقتُنا أيضاً لَم تَكُ بمحضِ صدفة، بل كانت إحدى الانطلاقاتِ التاريخيةِ التي فرَضَت تَحَقُّقَها كلُّ اللحظاتِ الحرجة.
سيلعبُ دوراً مُتَمِّماً، لو حاولنا تقييمَ فترةِ ما بين 1970 و1980 بلغةٍ أدبيةٍ خارجَ إطارِ التقييماتِ الأيديولوجيةِ والسياسية، وعمِلنا على بسطِ عُراها بالحياةِ الملموسة. ذلك أنّ الحركاتِ الأيديولوجيةَ والسياسيةَ لن تتخلصَ من عبءِ النواقصِ الفادحة، في حالِ إدارتِها من دون عقدِ أواصرِها مع شتى الفنونِ وعلى رأسِها الآداب، بل وحتى من دونِ تعبئتِها بعنايةِ فنانٍ مرهَف. بل إنها تغدو مَرَضِيّةً حينذاك. بمعنى آخر، من المحالِ توضيحُ الحقيقةِ بالأساليبِ الأيديولوجيةِ والعلميةِ فقط. وحتى لو حصل، فسوف تظلُّ ناقصة. وهكذا نوعٌ من الإيضاحِ يتعينُ النظرُ إليه على أنه تحريفٌ من تحريفاتِ الحداثة. ومثلما سأسهبُ في التوضيحِ في الفصولِ اللاحقة، من المستحيلِ خوضُ نضالٍ مبدئيٍّ ومتكامل، وبالتالي موفقٍ وظافرٍ تجاه الحداثةِ الرأسمالية، ما لَم يتمّْ تخطي موقفِ الحداثةِ الذي يختزلُ الشخصيةَ إلى بُعدٍ واحدٍ فقط (إنسانٌ معنيٌّ بالاقتصادِ أو السياسةِ أو الأيديولوجيا أو العِلم، أو أكاديميّ، أو عسكريّ، أو عامل، أو مثقفٌ متنور وما شابه). كما ولا مفرَّ من الوقوعِ في مصيدةِ الحياةِ الليبرالية، ما لَم تتحققْ التعبئةُ الكُلّيّاتيةُ المتكاملةُ للانطلاقاتِ والشخصياتِ والتنظيماتِ الثورية، وما لَم تُعقَدْ العلاقةُ مع الثقافةِ التاريخيةِ – الاجتماعية، ومع الحالاتِ الراهنةِ التي تُمَثِّلُ تلك الثقافة؛ وما لَم يُنجَزْ التحصُّنُ بتلك الحالات. ذلك أنّ الحداثةَ الرأسماليةَ تتغلبُ على منافسيها وتَهزمُهم بالأسلحةِ الأيديولوجيةِ والنظريةِ التي تحتويها الحياةُ الليبراليةُ بين ظَهرانَيها. هكذا يَسُودُ الاعتقادُ بأنّ الفردَ الليبراليَّ حرٌّ للغاية، أو أنّ الحياةَ الليبراليةَ طبيعيةٌ للغاية. بَيْدَ أنّ هكذا حياة أحاديةُ البُعدِ وأكثر دوغمائيةً من أشدِّ الأديانِ صرامةً وتزمُّتاً. ولَئِنْ كانت انطلاقةُ PKK لَم تُعانِ تماماً من الشذوذِ والانحراف، ولَم تَمُرّْ بسياقِ تصفيةٍ كاملةٍ مثلما كانت حالُ أمثلةِ الاشتراكيةِ المشيدةِ الأخرى المشابهة، ولَم يُقضَ عليها كلياً؛ فإنّ الباعثَ الأوليَّ وراء ذلك يكمنُ في بقائِها ملتزمةً بالحقيقةِ الاجتماعيةِ بمنوالٍ متكامل، وفي مقدرتِها على اتِّباعِ التكامُلِ عينِه في لَحمِ خُطاها النظريةِ والعمليةِ المحتويةِ على التحديثِ ببعضِها بعضاً. وفي المحصلة، فقد أسفرَ هذا النمطُ من الانطلاقةِ والمسيرةِ عن تطوُّرِ وتنامي مُقَوِّماتِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ البديلةِ في وجهِ عناصرِ الحداثةِ الرأسمالية. أما إسقاطُ الانطلاقاتِ الثوريةِ إلى قوةٍ فيزيائيةٍ فحسب، أو اختزالُها إلى بُعدٍ واحدٍ أيّما كان؛ فسيُمَكِّنُ تكامُلَ الحياةِ من تذليلِها وتجاوُزِها، عاجلاً أم آجلاً. إنّ نضالَ الروحِ الحرةِ والوعيِ الحرِّ قد ازدَهرَ وأينَعَ ضارباً بجذورِه في الصخورِ الصلدة، وانكشفَ عن ثمارِه الزاخرةِ في وجهِ اختلالِ التوازنِ الكاسحِ لقوى عناصرِ الحداثةِ الرأسماليةِ والمدنيةِ الخارجةِ على العصر.