أنّ PKK لَم تقتصرْ فقط على بَرهنةِ الوجودِ الكرديِّ البالغِ حافةَ التصفيةِ والزوال، بل وأَوجَدَته أيضاً...
عبدالله اوجلان
يشَكّل الوجو د والوعي قضيةً مِحوَرِيّةً في الفلسفة. ومصطلح الوجودِ بالتحديدِ لا ينفكُّ يتصدر قائمةَ المصطلحاتِ الفلسفيةِ التي غالباً ما يدو ر الجد ل والفضو ل حولها. أماالمصطلح التوأ م الذي يلازِ مه، فهو الزمان. وهما لا ينفصلان عن بعضِهما البعضِ أبداً.فكيفما يستحي ل التفكي ر بالوجودِ بلا زمان، فالزما ن أيضاً عدمٌ من دون الوجود. أي أنّ الزمانَ معنيٌّ تماماً بالوجود. والعلاقة بينهما متعلقةٌ بالأكثر بمصطلحِ النشوء. فهما يتحققان حتمياً بالنشوء. إنّ الزمانَ يرغِم على النشوءِ متجسداً في الوجود. أو بالأحرى،سَيرورة الوجودِ ممكنةٌ بالنشوء. ولدى حديثِنا عن الوجودِ وهو في حالةِ نشوء، يَكون الزما ن قد ولِد. إذا كان النشو ء موجوداً، أي إذا وجِدَت وردتان مختلفتان في مكانٍ ماعلى سبيلِ المثال، فهذا معناه أنّ الوجودَ والزمانَ موجودان هناك. وغيا ب النشوءِ يعني انعدامَ الوجودِ والزمانِ في آنٍ معاً. والنشو ء حالة اختلافٍ وتَجَسُّدٍ عَينيٍّ للوجود. وأيُّ وجودٍ ليس في حالةِ نشوء، هو وجودٌ غي ر موجود، وزمانٌ غي ر موجود.حالة التكوُّنِ والتبا ينِ هي وعيٌ في حالةِ كمون. ولَربما كان الاختلا ف والتباي ن أول خطوةٍ على دربِ الصعودِ والارتقاءِ نحو الوعي. فبمجردِ أنْ ينشَأَ الموجو د مع الزمانِ ويختلف، يَ كو ن قد خطا أولى خطواتِه باتجاه الوعي. وبقدرِ ما يتواج د التكو ن والأشكا ل والهيئات )لجميعِها نفس المعنى(، يكو ن ثمة وعيٌ بالقدرِ ذاتِه. والوع ي بمعناه الكونيِّ اختلافٌ وتبا ين، في حين أنّ الوعيَ تصنيفاً هو الحالة الكونية العامة لجميعِ حالاتِ الوعيِ أثناء التباينِ والتما يز. لكنّ اللاتناهي في الأشكالِ يعني اللانهايةَ في حالاتِ الوعيِ أيضاً. أي، يختل ف الوع ي بقدرِ اختلافِ الشكلِ والهيئة. ومصطل ح الوعيِ )الروح Tin )لدى هيغل أَسبَ ق من الشكل. أو بالأصح، ثمة وعيٌ من دونِ شكلٍ أو هيئة. هذا ويَبتدئ هيغل الشكلَ من الطبيعيةِ الفيزيائية، ليرتقيَ به إلى مرتبة الدولةِ. ويسعى الوع يعن طريقِ الهيئاتِ المتجسدةِ إلى التحولِ من الحالةِ العشوائيةِ )اللاشكلية( إلى حالةِ الوعيِ لذاتِه. كما و يثبِ ت الوع ي حضورَه، ويتعر ف على ذاتِه في آنٍ معاً من خلالِ الهيئاتِ الفيزيائيةِ والبيولوجيةِ والاجتماعية. والوع ي لدى الإنسانِ هو الوع ي الذي باشرَ بمعرفةِ ذاتِه. أما الوع ي الفلسفيُّ أرقى حالاتِ الوعي، ويَ عو د أد ا رجَه إلى أولى حالاتِه كوعيٍ مدركٍ لذاتِه. أي أنه يعو د وهو مدركٌ ذاتَه، أي كوعيٍ مطلق. وبمقدورِنا تسمية ذلك أيضاً بمغامرةِ الوجودِ والزمان. هذا النمط الفكريّ الذي غالباً ما ارتَقَت إليه المجتمعا ت الشرقية بالعقائدِ الدينيةِ والتصوف، قد طالَه المجتمع الغربيُّ عن طريقِ العلمِ والفلسفة.ما يَهمُّ في موضوعِنا هو توضي ح العلاقةِ فيما بين النشوءِ والوجودِ والوعي، واضفا ء المعنى عليها. وسوف تَغدو هذه المصطلحا ت الثلاثة تنويريةً للغاية، عندما يَ كو ن الكر د موضوعَ الحديث. فالعم ل على تعريفِ الكردِ وهم في حالةِ الوجودِ والنشوءِ والوعي، يشَكِّ لأرضيةَ الفهمِ الجذريِّ للموضوع. كان وجو د الكردِ مثارَ جدلٍ وسجال، ربما بالنسبةِ إلى أغلبيةِ المجتمعاتِ والدولِ حتى أَجَلٍ قريب. ولكي يثبتَ الكر د وجودَهم، عانوا حوادثَ قمعٍ وانكارٍ وابادة، وَصَلَت في القرنَين الأخيرَين مستوىً، يَل و ح أنّه ما مِن كيانٍ اجتماعيٍّ شَهِدَ مثيلاً له تحت ظلِّ الحداثةِ ال أ رسمالية، شكلاً كان أم مضموناً أم عنفاً تعسفياً. كماو مورِسَت بحقِّهم إباداتٌ ثقافيةٌ وجسدية، وأ قحِمَت شتى أنواع العنفِ والوسائلِ الأيديولوجيةِ في الأجندة، بغيةَ الإنكارِ والتشتيتِ جسدياً وثقافياً )ذهني اً( على السواءِ في موطنِهم الأ مّ )كردستان(. وبالإمكانِ القو ل أنه لَم تَبقَ آلية قمعٍ ونهبٍ وسلبٍ إلاومارسَتها الحداثة الر أ سمالية، وصولاً إلى منزلةِ التطهيرِ العرقيِّ والإبادة. من هنا، فالكردايتية ظاهرةٌ لا نظيرَ لها على هذا الصعيد. استخدمَ اليهو د مصطلحَ "الفريد" أو "الذي لا مثيل له" بعنايةٍ فائقة، في إشار ة منهم إلى الإبادةِ الجماعيةِ التي شَهِدوها. لكنه سيَ كو ن في محلِّه استخدا م تعبيرِ "الشعب الفريد" أو "الكيان الاجتماعيّ الفريد" بالنسبةِ للكرد؛ ليس على صعيدِ الإباداتِ التي تعرَّضوا لها وحسب، بل وبسببِ جميعِ الممارساتِ التي ترمي إلى إخر ا جِه من كونِه وجوداً. ومسيرة نضالِ الأعوامِ الثلاثين الأخيرةِ متجسدةً في PKK ، قد جرى خو ضها فقط – وفقط من أجلِ قضيةِ الوجودِ بالنسبةِ للكرد. أي أنّ هذا الكفاحَ كان بمعنى من –المعاني بغيةَ حَسمِ سؤالِ: الكر د موجودون أم لا؟. فبينما كان أح د الطرفَين يلِحُّ بشكلٍ انتحاريٍّ أعمى على قولِ "الكر د موجودون"، كان الطر ف الآخ ر يقو ل "لا، هم غير موجودين". بل والأنكى والباع ث على الخجل، هو أنّ المسألةَ الأوليةَ على صعيدِ التنورِ والتثقفِ الكرديِّ خلال العقودِ الستةِ التي تَسب ق الأعوامَ الثلاثين الأخيرة، كانت تتجس د أيضاً في الانهماكِ بإثباتِ وجودِ الكرد. ما من شائبةٍ في أنّ شروعَ فردٍ أو مجتمعٍ ما في الجدالِ بشأنِ وجودِه، يعَبِّ ر عن خطرٍ فادحٍ ومنزلةٍ منحطة للغاية، مشي ا رً بدورِه إلى الخطِّ الرفيعِ الفاصلِ بين الحياةِ والموت. وما من موجودٍ أو كيانٍ اجتماعيٍّ في التاريخِ أ سقِطَ في هذا الوضع، أو نادرٌ جداً عد د الكياناتِ الاجتماعيةِ التي تَعَرَّضَت لهكذا وحشيةٍ فظيعة. بمعنى آخر، لَم يسقَطْ أيُّ كيانٍ اجتماعيٍّ إلى حالةِ الخجلِ من الذاتِ والقبولِ بإنكارِ الذاتِ بقدرِ ما هم عليه الكرد، أو نادرةٌ جداً الكيانا ت الاجتماعية التي شَهِدَت هكذا انحطاطاً وسفالة. من جانبٍ ثانٍ، فأنْ تَ كونَ كردياً، يعني أنْ تَ كونَ شيئاً أَشبَه بأنقاضِ حشدٍ أو تجمعٍ بلا مَوطِن، ولا يساوي قرشاً واحداً، بل يبقى خاليَ اليدَين من المال، وعاطلاً عن العملِ بكثافةٍ كبيرة، ويَعمَ ل مقابلَ أيَّما أَجر، ويصارع دوماً من أجلِ الحياة، وينسى احتياجاتِه الثقافية، ويَدأبَ بلهفةٍ لأجلِ تلبيةِ احتياجاتِه المادية، ويَبقى مع ذلك بلا نان NAN )بلا خبز( في موطنِ ال"نان" )الوطن الأم لثورة الز ا رعةِ النيوليتية(. كن ت سرد ت المأساةَ التي عانيت ها بدايةَ ذهابي إلى مدرسةِ الصهرِ الابتدائية. وكأني كن ت أستَشِفُّ وأستَشع ر الخطرَ الكامنَ و ا رءَ المدرسةِ الابتدائيةِ التي كانت ت لَقِّ نني لغةً مختلفةً بدلاً من لغتي الأمّ. وارغامي على التخلي عن لغتي كان يَعني لي بحالتي الطفوليةِ تلك إرغاماً على التخلي عن وجودي. لذا، هل كن ت سأتخلى عن وجودي )أي الكردايتيّة(، أو سأ رغَ م على التخلي عنها؟ هكذا كانت قد بَدأَت الظاهرة أو القضية الكردية بالنسبةِ لي. إنها وجودٌ أو مشكلةٌ قَضَّت مَضجَعي، وأَقلَقَتني من الصميم، ولَم أَلقَ لها أيَّ جوابٍ سن واتٍ طويلة... حيث كان خس ا رنٌ عميقٌ للوجودِ يتست ر و ا رءِ خس ا رنِ اللغةِ الذي عِشت ه. ما الذي كن ت خسرت ه؟ كان هذا سؤالاً عَصِيّاً جداً على الجواب. أما الدفاع عن الكرد، فبات وجوداً شاقاً واشكالياً. من هنا، فما عِشت ه لَم يَ ك وجوداً، بل رعشةَ نَفاذٍ وفناء. كما لَم يَ ك أشكالَ وعيٍ لَقِيَت أجوبتَها، بل كومةً من المشاكلِ والقضايا المتعاظمةِ باستم ا رر لدرجةٍ تَبع ث على الجنون. كن ت أتحد ث في مطلعِ عامِ 5791 مع محمد خيري دورموش، وكأنّني عَثَر ت على جوابٍ لكومةِ القضايا التي كانت تَسحَقني تحت وطأتِها. هكذا كتِبَت أجوبة القضايا على شكلِ مسودة. وانسكَبَ الكلا م من فمي. واضحٌ جلياً أنّ جوابي كان هدفاً شفوياً بصددِ كيانٍ يستَشَفُّ بِشَقِّ الأنفسِ وكأنه خيالٌ أو وهم، ويَفر ض وجودَه وكأنه ظلٌّ أو مجَرَّ د أَثَر. كنت أعتقد أنّ النظرَ إلى العالَمِ من نافذةِ التحررِ الطبقيِّ والوطنيِّ جواباً شافياً. هكذا كنت أَصوغ ردوداً مثاليةً زيادةً عن اللزوم. فمهما يَ كن، فالاشتراكية المشيدة كانت عَيِّنَةَ الحقيقةِ ونمطَها. ومعرفة أبجديتِها كان سيَجلب الباقي و ا رءه. ما من شكٍّ أنّ هذا السلوكَ كان الترياقَ الناجعَ لتداعياتِ التعميةِ والإبادةِ الناجمةِ عن الليب ا رليةِ والفاشية من الط ا رزِ الشرقيّ. حيث كان قاد ا رً على إعاقةِ التسمم، حتى لو لَم يوصِلْ إلى الحقيقة. وكان هذا الموق ف س يقَدِّ م مساهماتِه في حربِ الوجودِ تجاه الإبادةِ الثقافية. بشكلٍ عام، للنضالِ الاجتماعيِّ علاقت ه مع البحثِ عن الحقيقة. فنضالٌ اجتماعيٌّ يجه د لحلِّ قضيةٍ اجتماعيةٍ ما، لن يستطيعَ إح ا رزَ النجاحِ ما لَم يعَبِّرْ عن حقيقتِها الاجتماعية. ونسبية الحقيقةِ الاجتماعيةِ لها م ا زياها المعيا رية ال ا زئدة إلى آخرِ حدّ. بينما ارتباط ها بالمكانِ والزمانِ وثيقٌ ووطيد. ولَئِنْ ما ق يِّمَ الأم ر من ا زويةِ الحقيقة، فس يرى أنّ حادثةَ PKK لَم تقتصرْ فقط على بَرهنةِ الوجودِ الكرديِّ البالغِ حافةَ التصفيةِ والزوال، بل وأَوجَدَته أيضاً بنسبةٍ هامة. لذا، ما كان له أصلاً أنْ يَ كونَ حركةً تحرريةً بالمعنى الكلاسيكيّ. فلا وضع الوجودِ أو الكيانِ الذي ارتَكزَ إليه، ولا الوع ي الذي تَحَلَّى به كانا يسمحان له بذلك. لقد أَوجَدَ PKK الكردَ ميدانياً. ذلك أنّ كردايتيةَ القرنِ العشرين كانت كردايتيةً تقتضي جعلَها موجودةً قبل تحريرِها. وما أ حرِزَ النجا ح فيه كان تصييرَها موجودة. فإذا كان شيءٌ ما يعاني من قضيةِ الوجود، فما ينبغي القيام به أولاً هو تأمي ن وجودِه، وليس تحريرَه. ووضع الكردِ كان يستلز م إيلاءَ الأولويةِ تماماً لإبرازِ الوجود. ذلك أنّ مصطلحاتٍ من قبيلِ التحررِ والحريةِ والمساواة، لن تكتسبَ معناها إلا بالنسبةِ إلى موجوداتٍ حلَّت قضيتَها الوجودية. وجان ب تأمينِ الوجودِ في ممارسةِ PKK يتميزبالأهميةِ الكبرى أكثر مما هو جان بها التحرريّ. من هنا، فمن المجزومِ به أنّ PKK لعبَ دو ا رً مصيرياً في وجودِ الكرد. السؤال التالي هامّ: أكان للوجودِ الكرديِّ أنْ يأخذَ حالتَه الراهنةَ من دونِ ممارسةِ PKK ؟ من العسيرِ الردُّ ب نعم. التحلي أولاً بالتنورِ بشأنِ قضيةِ الوجودِ الكرديّ، شرطٌ أوليٌّ قبل خوضِ النقاشِ بصددِ القضيةِ الكرديةِ و سبلِ حلِّها. والتنو ر يعني التعرفَ على الحقيقةِ المتعلقةِ بالوجودِ المعنيّ. أما الحقيقة، فهي هدفٌ لا يطا ل من دونِ خوضِ كفاحٍ عتيدٍ في سبيلِها. والحقيقة ليست الواقعَ ال معاش، بل هي حالته الواعية. والواقع بلا حقيقة، واقعٌ نائم.والواقع النائ م لا مشكلة لديه. الحقيقة هي حالة اليقظةِ للواقعِ النائم. وحالة النومِ لدى الكردِ كانت غائرةً وأدنى إلى الموت، بحيث كان واضحاً وضوحَ الشمسِ أنّ خوضَ الحربِ في سبيلِ الحقيقةِ سيَغدو معقَّداً وشائكاً وعصيباً للغاية. ومثلما أني لَم أفقدْ شيئاً البتةَ من هَيامي وعنفواني، رغم كلِّ الظروفِ الشاقةِ في سجنِ إمرالي؛ فانشغالي بحقيقةِ الشعبِ الكرديّ، بعدَ حالتي التي كانت قائمةً قبل خمسٍ وثلاثين سنة، يَبدو وكأنه يسَلِّط النورَ على ربيعٍ أكثر معنى من دورِ التنويرِ الذي أداه الكر د في فجرِ الحضارة. إني منتبهٌ إلى كونِ هذه وجهةَ نظرةِ رومانسية. ويَبدو فيما يبدو أنّ وجهةَ النظرِ الرومانسيةَ هذه نداءٌ ودعوةٌ لبراعمِ الحقيقةِ الأكثر نضارةً بكثيرٍ من رَمادِ الحقيقةِ الهَزَليةِ التهكميةِ التي لا تَبعث على الأمل. والحقائق المعنية بالواقعِ الكرديِّ وقضيتِه، إنما هي شاهدةٌ ازدهارِ آمالِها في الحريةِ لأولِ مرة._